تقدير التراث غير المادي


 تقدير التراث غير المادي
من جولي سكوت، المسؤولة عن الأبحاث الرئيسة، في جامعة مدينة لندن
روى مؤخراً مراسل من "بي بي سي" في بثّ إذاعي قصّة مؤلمة تتعلّق بأشجار براغ. في جزءٍ من براغ خارج المدينة التاريخيّة، قُطعت أشجارٌ يفوق عمرها مئات السنين لفسح المجال أمام أشجارٍ صغيرة ومقاعد وعناصر أخرى محمولة توضع في الشوارع، في إطار إعادة تخصيص ذلك لبناء ملكيّة سكنيّة مترفة. وتبيّن أنّ اعتراضات المقيمين هناك وعرائضهم ذهبت سدىً، فلقد قُطعت الأشجار. إلاّ أن إحدى المقيمين طلبت من منظّمي هذا العمل الإذن بأخذ جزءٍ من إحدى الأشجار للاحتفاظ بها. وافق المنظّمون على هذا الطلب، قائلين لها إنّها في آلّ الأحوال "لا تساوي شيئاً". عندما أظهرت المرأة الشجرة للمراسل من "بي بي سي"، أشارت له بأصبعها إلى الدوائر التي تبيّن عمر الشجرة قائلةً: "تشير هذه الدائرة إلى انهيار الإمبراطورية النمساوية المجرية؛ وهذه هنا إلى إنهاض براغ، أمّا هذه فتشير إلى ربيع براغ". وسألته بعدئذٍ: "كيف يمكن لرابطٍ بهذه الحيويّة والواقعية مع أحداث تاريخ المدينة ألاّ يساوي شيئاً وألاّ يكون له مستقبلٌ؟"
إن تحديد ما يشكّل "التراث" ازداد مع الأخذ بعين الاعتبار مفهومٍ أآثر توسّع ل"التراث غير المادي". لكنّ قصة الأشجار في براغ تركّز على طبيعة التراث غير المادي الواسعة جداً والصعوبات الخاصة بها في ما يتعلّق بالتعرّف عليها وإدارتها وكيفية تقييمها ومن عليه فعل ذلك. أتشكّل أوّلاً الأشجار تراثاً مادياً أو غير مادي؟ بالتأكيد أن ثمّة الكثير من مناطق التلاقي بين ما هو مادي وما هو غير مادي فالذاكرة والأقاصيص والمعرفة الثقافية والانجازات على أنواعها مطبوعة إلى الأبد في المباني وفي صميمها تكمن الأمور الحقيقية وحولها تُلف أنسجة الربط والأهمية والممارسة الثقافية. آما أنّ بناء التراث المادي وصيانته ينبعان من المعرفة والتقنيات والمؤهّلات التي طُوّرت مع الوقت ونُقلت من خلال المعاهد الثقافية التقليديّة،كتعليم المهنة، مع ما تحمله من قيمة غير مادية. وآما عبّر الكثير من الكتّاب، فإنّ مفهوم الإرث بنفسه يدخل في آلّ المعاني والممارسات ومكانة القيم وإلى هذه النقطة بإمكاننا القول أنّ التراث آلّه غير مادي.
من جهةٍ أخرى، ليس من المؤكد إلى أي حدّ يمكن نقل الأفكار والمقاربات الموسّعة والمتعلّقة بترميم الأنصبة والمباني والحفاظ عليها إلى مجال المعرفة والأفكار والممارسات المرتبطة بالتراث غير المادي. وتنبع الاتفاقات المعيارية للتصديق والتصنيف من الممارسات التي تُعنى بتصنيف الأمور وتقييمها وهي مرتبطة إلى حدٍّ بعيد بعملية القياس، حيث تميل التأثيرات إلى تقليص الأشكال الثقافية الحيّة وأذيّتها. وبتعبيرٍ آخر، هذه التعابير الثقافية الأكثر قبولاً لأن تمثل في قائمة لأشكال التراث غير المادي هي نفسها الأٌقرب إلى فكرة التوضيح، مبتعدين بذلك عن طريقة الانتروبولوجيا الثقافية التي تختصّ بالتراث غير المادي. إضافةً إلى ذلك، وُضعت معايير ضمنيّة لتحديد ما يجب أو لا يجب اعتباره تراثاً.
لذلك، فالقوائم الثقافية سيفٌ ذو حدّين، فهي لا تذكر ما يجب حمايته والحفاظ عليه فحسب بل أيضاً ما هو سطحي وبدون قيمة عبر حذفها للأمور المهمّة. في مثل براغ، كانت الأشجار ضحيّة القوائم الثقافية مرّتين. فهي تقع في الوسط بين الأشكال التراثية المادية وغير المادية، آما أن موقعها الخارجي يضعها أيضاً في منزلة غير محدّدة ثقافياً وتاريخياً بعكس ما يحصل في أوساط المدن المشحونة ثقافياً وتاريخياً. في الواقع، هذه الشوارع مرشّحة لأن تشكّل جزءاً من التطوّر والتجديد العمراني لأنّ المواقع الثقافية تتعلّق أآثر فأكثر باستراتيجيات التحديد فيما يرتفع سعر الملكيّات مع الاقتراب من المراكز التراثية.
في كلّ حالةٍ كتلك في موقع جامع الحلا الذي أُنقذ من خطط السلطات البلدية بشأن الصرف الصحي والتحديث بتعيينه موقعاً ثقافياً، بعد الاعتراف الدولي بقيمته التراثية غير المادية. وتكثر الأمثلة في كافة المدن المتوسطيّة حول الفشل في إنقاذ مجتمعات الأحياء الصغيرة التي تحمل التقاليد العمرانية الحيّة والأشكال الاجتماعية التي لم تعد جزءاً من رؤية مستقبل هذه المدن، علماً أنّ هذه الأمكنة الاجتماعية والثقافية المعنية مزوّدة بأنظمة الصرف الصحي و"محدّثة". ومثالٌ آخر على هذه المشكلة هو حالة خطّة بلديّة الفاتح في اسطنبول التي تقضي بهدم منازل المجتمع البدوي "سولوكول" ليحل مكانها مجتمعٍ رفيع المستوى من 620 منزلاً حديثاً بالأسلوب العثماني الحديث في التحضير لاسطنبول، المدينة الأوروبية للثقافة في العام 2010 . واحتجّ البدو والمدافعين عنهم قائلين إنّ ذلك لن يهدّم رابطاً حياً مع إرث المدينة البيزنطي فحسب، بل قدرة هذا المجتمع على الصمود في المستقبل، بما أنّهم لن يتمكّنوا من كسب لقمة عيشهم من الرقص في الأعراس وفي سائر أماكن الترفيه في المدينة.
آما لا يمكن فصل القيم التراثية عن القيم الاقتصادية والثقافية والمجتمعية حيث تُدمج الأولى وتساعد في إعداد الأخرى. إنّ ميل المدن التاريخيّة المتوسطيّة التي كانت في الماضي مراكز إنتاج وسكن وتجارة إلى التحوّل إلى مراكز سياحة واستهلاك لممارسات الهوايات حوّل معه المعنى والقيمة التراثية ووفّر السبل الاقتصاديّة لإنمائها. ويتضمّن ذلك في الوقت نفسه خطر تصنيف المواقع بين "تاريخي" و"غير تاريخي" و"معلّم ثقافياً" و"غير معلّمٍ ثقافياً" و"تراث ذو قيمة" و"تراث بدون قيمة" بطريقةٍ قد يتبيّن أنّها مضرّة لأنواع التراث غير المادي التي يمكن اعتبارها العنصر الحيوي لهذه المدن والتي تحيي الأماكن المتواجدة بين المواقع التاريخيّة. لهذه الأسباب، أرغب في توجيه نصيحة بل محاولة تكييف ممارسات خاصة بالتراث المادي في التراث غير المادي وعدم فرض أساليب معيّنة على التراث المادي آما يعالج التراث غير المادي، الأمر الذي يتبيّن أنّه أسوأ بعد. في هذا الاطار، يُرحّب آلّ ترحيبٍ بالتوازن بين التراث المادي وغير المادي في مشاريع التراث الأوروبي المتوسطي

تعليقات