-دارة زهاء-
د. خالد السلطاني
... وزهاء، الواردة في العنوان، هي طبعاً، "زهاء حديد": المعمارة المتميزة والمجددة، ذات الشهرة العالمية الواسعة؛ و"دارتها"- هو بيتها البغدادي، الذي ولدت فيه بتاريخ 31 تشرين الاول 1950، وترعرعت به، قبل ان ترحل الى لبنان، لدراسة الرياضيات في الجامعة الامريكية ببيروت، ومن ثم الى المملكة المتحدة، سنة 1972، لكن هذه المرة لدراسة العمارة، التى نالت شهادة تخرجها عام 1977، من "مدرسة العمارة التابعة للجمعية المعمارية" AA school of Architecture العريقة بلندن، المعروفة اختصارا بـ "AA"،. وقد انضمت مباشرة عند حصولها على دبلومها المعماري، الى مكتب استاذها "ريم كولهاس"، لكنها سرعان ما تركته لتؤسس لنفسها، بعد ذلك، مكتبا استشاريا خاصا بها عام 1979.
ومنذ نجاحها المدوي، في مسابقة مشروع (القمة) Peak في هونغ كونغ عام 1982، باحرازها المرتبة الاولى، عرف العالم المهني مقاربتها المعبرة شديدة االتميز، التى ظلت على امتداد سنين طويلة تسعى وراء انضاج لغتها، مرسخة تمثلاتها في مشاريع معمارية، ابهرت الوسط المعماري لجهة جدة طروحاتها التكوينية وقطيعتها مع المتداول التصميمي في آن؛ مستلهمة خصائص مقاربتها من الحفر في اركيولوجية الحركات الحداثية المعمارية بضمنها التكعيبية والمستقبلية، والسوبرماتية، والكونستروكتفيزم، فضلا على اهتمامها ورصدها لخصائص عمارة مجايليها وما قبلهم، وخصوصا اعمال لو كوربوزيه المتأخرة واشتغالات "اوسكار نيماير" التصميمية المتجددة.
تتربع، الآن، زهاء حديد، على ارث تصميمي، اجتهدت، بدأب نادر، ان تصوغ عناصره بجهدها الذاتي، ما اهلّ مكتبها المعماري، ليكون واحدا من اشهر مكاتب الاستشارية العالمية في الوقت الحالي. ان عمارة زهاء، تحضر الآن حضورا بليغاً في المشهد المعماري العالمي، بفضل استثنائية لغتها المميزة، وهي لهذا تشكل أهمية قصوى في تنوعيات منجز ذلك المشهد. وهذه الاهمية تستقيها، كما اشرنا في دراستنا الاخيرة عنها، من كونها ".. تعتبر احدى تجليات مفاهيم ما بعد الحداثة، المفاهيم القادرة، تبعا لخصوصيتها المعوّمة، على إستيلاد مقاربات جديدة ومتجددة. فعمارتها تنزع للتعبير عن مرجعية تصميمية هي خليط بين توق توظيف الاشارات المجازية والسعي وراء الافصاح عن هوى التجريد. انها في هذه الحالة تتخطى حتى اطر مفاهيم المقاربة "التفكيكية"، المتخمة عادة بغرائبية الاشكال التصميمية والمتجاوزة "للتابوات" البصرية. لكن عمارتها مع هذا، (وربما بالاضافة الى هذا)، تظل امينة لتحقيق مفهوم "الازاحة" Displacement في دلالاته التفكيكية، فهي تنزع الى "فك ارتباط" العمارة من خاصية الاستقرار والتموضع. وهذا النزوع يظل بالطبع مشوب بالمفارقة. ذلك لان الامر كما يقول "بيتر ايزينمان" (وهو احد مناصري المنهج التفكيكي المعماري)، يتطلع الى "نزع شيئا من موضعه هو بالاساس متموضع!". انها بالتالي، تدعونا الى نسيان وحتى هجر ما وسم العمارة السابقة من قيم ومبادئ، واحلال بدلا عنها قيماً جديدة تكون متساوقة مع متطابات العصر، عصر المعرفة المتجددة، والبيئة المعلوماتية المتحمكة بها الالكترونيات, انها باختصار تدفع في اتجاه الغاء قوانين الهندسة الاقليدية المألوفة، والتوجه نحو صياغات تكوينية تتحدى قوانين الجاذبية، وتكون متخمة بالالتواءات والانحرافات والهشاشة والتنافر والتشظي وعدم التناغم بين عناصرها التصميمة".
تمثل عمارة زهاء حديد، الآن، ظاهرة لافتة في المشهد المعماري ما بعد الحداثي. وتستقي تلك الظاهرة مقوماتها، ليس فقط، من تأثيرات الجانب الايجابي المتعاطف مع خصوصية تلك العمارة، وانما ايضا، بسبب ما تثيره تلك العمارة من سجال مهني وما تحدثه من تباين في الرؤى، لجهة تقبل تلك العمارة، أو رفض لها. فمثلما تحظى عمارتها باعجاب البعض وتعاطفه معها، فهي ايضا تجد عدم اكتراث وحتى انكار، يصل حد الاستهجان، من لدن البعض الآخر من المتلقيين العاديين وحتى المهنيين. لكن عمارتها، مع هذا، ماانفكت تعتبر تمثيلا لاوج اللحظة الابداعية في الفكر المعماري المعاصر. ويتساءل المرء، كيف قدر لامرأة، (وفوق ذلك، امرأة ذات اصول شرقية!)، ان تحقق بمفردها، تلك الانجازات المعمارية المرموقة؟!. ربما، وحدهم المهنيون، الساكنون في الغرب، او المقيمون فيه؛ هم الذين يعرفوا جيدا حدة سباق الافكار المتصارعة هناك، بوسعهم ان يقيموا، بموضوعية، نوعية المأثرة الابداعية وطبيعتها التى اجترحتها زهاء حديد، عندما ارتقت بعمارتها لتكون حدثا فنيا فريدا ومؤثرا، في الخطاب المعماري العالمي!. اذ لا تزال الغالبية العظمى من المتلقيين، تعتقد ان مجرد وجود الانسان في الغرب، يعتبر امرا كافيا (وكفيلاً) لان تفتح امامه ابواب عديدة؛ تقود جميعها، نحو الشهرة او الثراء، متغافلين عن جهل او تجاهل ضراوة ذلك السباق الابداعي واشتراطاته القاسية لجهة تأمين موقع قدم متقدم فيه.
يقال ان توافر وتعايش مجموعة من المؤثرات والوقائع المختلفة وحضورها جنباً الى جنب بالمشهد، في لحظة تاريخية محددة، يسهم في تأسيس، ومن ثم تكوّن ظاهرة ابداعية ما، ويبرزها في الخطاب. لكن ذلك التأسيس المفضي الى التكوين، يستدعي اولاً، واساساً، حضور فرد (افراد)، بحسّ خاص، يتمتع بقابلية نادرة للاستشعار بوجود حراك تلك المؤثرات والاحساس بحضور تلك الوقائع، ويمتلك في الوقت ذاته، امكانات استثنائية تؤهله القيام بتمثيل تلك الظاهرة وتحمل عواقبها. يقال ايضاً، أن الظروف الموضوعية التى شكلت الخطاب الابداعي في لندن وقتذاك، وتحديداً في نهاية السبعينات، بضمنها الخطاب المعماري، المنطوي على تكثيف ارهاصات التغيير في الذائقة الفنية، والحافل بشيوع الافكار التنظيرية المتنوعة، الحاثة على العصيان لما هو سائد تصميمياً والتمرد عليه، ووصول مسار الحداثة المعمارية الى ما يشبه الطريق المسدود، متمظهراً باختناقات اسلوبية، والمهم ايضا، "مصادفة" وجود زهاء حديد: المتخرجة توا من الـ "AA" ، هي الغاصة في هوى التجديد، والقريبة جدا من مركز بث الافكار التجديدية الداعية الى التغيير والقطيعة معا؛ ما جعل عمارة الاخيرة توصف كاحدى أهم تجليات تلك الظاهرة الابداعية، والتعبير الكفوء لها. بمعنى آخر، توافر لعمارة زهاء، ما لا يمكن ان يتوافر لغيرها: لحظة تاريخية فريدة، تجمع بين نضوج المؤثرات الضاغطة لتشكيل الظاهرة الابداعية الجديدة، مع جهوزية التوق الشخصي لتمثيل نتائج تلك المؤثرات.
هل كان ذلك التلاقي محض "صدفة"، بحيث استطاعت المعمارة ان تجيّر تأثيراته لصالحها ولجهة مقاربتها التصميمية؟
- ربما!. وهل ان "اقتناص" الصدف، امراً معيباً؟؛ رغم اننا نميل للاعتقاد مع كارل ماركس، من ان "الصدفة: ضرورة تاريخية"!. ومهما يكن فان اللحظة الابداعية المنشودة، قد ُفهمت، وتم الامساك بها، والاشتغال على "منوالها". ولتنطوي السنين القادمة على مزيد من ترسيخ مقاربة معمارية مميزة في الخطاب، دأبت زهاء بجهد مضنٍ، واجتهاد عالٍ على اظهارها بمزيد من التألق والتجدد والفرادة التكوينية. وبات "الديبو" Début الجرئ والمثير للسجال، الذي ظهرت به زهاء، فجأة، في بداية الثمانينات، وقد بدا يشكل بالوقت الراهن، سجلا غنياً من الانجازات الابداعية الهامة والمتنوعة. فهي، الان، ليست "معمارة قرطاس" Paper Architect ، كما كان يطلق عليها؛ وانما صاحبة مشاريع متعددة منفذة في مناطق جغرافية واثنية مختلفة، تمتد من اقاصي الصين مرورا باوربا وبلدان الشرق الاوسط، لتصل الاراضي الامريكية البعيدة. وامسى الكثير من مبانيها ذات الوظائف المتنوعة، بمثابة "ايقونة" معمارية في فضاءات المدن التى نفذت فيها. وهي الان، تحصد الجوائز المهنية الرفيعة ذات الاعتبار المهني العالي، فهي المعمارة / المرأة الاولى، التى نالت جائزة بريتزكر Pritzker المرموقة (2004)، وقبلها في عام 2003، حازت على جائزة الاتحاد الاوربي للعمارة المعاصرة، كما منحت جائزة "ريبا" البريطانية على مدى سنين عديدة: في 2005، و2008، و2010، وفي عام 2007، ونالت جائزة "ميس فان دير رو" المعمارية الاوربية، كما حصلت على جوائز خاصة من الولايات المتحدة وغيرها من البلدان.
وتحرص المتاحف الفنية العالمية والغاليريات المشهورة على تنظيم معارض خاصة لتصاميمها المعمارية وغير المعمارية، ففي عام 1995، نظم معرض لها في مدرسة الدراسات العليا للتصميم في جامعة هارفرد الامريكية، وفي سنة 1997 افتتح معرضها في متحف الفن الحديث في سان فرنسيسكو، وافرد لها حيزا خاصا في جناح بريطانيا في بينالي فينيسيا عام 2000، ونظم متحف الفن التطبيقي الحديث في فيينا معرضا خاصا لها عام 2003، وقبلها في عام 2002، كانت اعمالها موضوعا لمعرض اقيم في المركز الوطني للفن الحديث في روما. ونظم معرضا شاملا استعاديا لها ولاعمالها في متحف "سالمون غوغنيهايم" الشهير في نيويورك عام 2006، وفي السنة التالية (2007)، نظم "متحف التصميم" بلندن معرضا لاعمالها.
وهي بالاضافة الى عملها التدريسي في مدرسة AA بلندن، فهي ايضا استاذة زائرة لدى اشهر المؤسسات الاكاديمية العالمية، فقد عملت في هارفرد، وبرينستون وفي جامعة فيينا والمانيا واليابان وحصلت على اعلى الشهادات التقديرية من مؤسسات اكاديمية رصينة. وصور فيلم خاص عنها (يوم مع زهاء حديد) في عام 2004، انتجته نيويورك. وينشر، كل عام، عنها مزيدا من الكتب العلمية، التى تعدد وتسجل مقاربتها التصميمة وتقيمها. كما لايخلو اي عدد من اعداد المجلات المعمارية المعروفة العالمية، عن متابعة جادة لتصاميمها المتنوعة. وعدتها مجلة " فوربيس" Forbes عام 2008 في المرتبة 69 في قائمتها: (اقوي 100 امرأة في العالم)!. كما سمتها مجلة "تايم" الامريكية في سنة 2010، ضمن لائحتها المتكونة من 100 شخصية مفكرة ومؤثرة في العالم. اما مجلة "نيو ستيتسمان" البريطانية فقد اختارتها في ايلول عام 2010 بمرتبة 42 من قائمتها السنوية الخاصة (اهم 50 شخصية نافذة في العالم). انها باختصار احدى اهم نساء العالم: اهمية وشهرة وتأثير، وفقا لرأي واستفتاء المراكز الاعلامية العالمية المرموقة.
لكن هذه المرأة المشهورة عالميا، والمؤثرة دوليا، والفريدة في طروحاتها التصميمية، ما انفكت تذكر بانها ابنة العراق، المولودة في عاصمته بغداد. وهي تشير الى ذلك في جميع سيرها الذاتية المنشورة، رافعة بذلك، اسم العراق عالمياً: وطنها الاول ومؤكدة على انتمائها له. لكن بلدها، مع الاسف، لا يعرف عنها الكثير: لا يتابع طبيعة انجازها، ولا يكترث بمقاربتها المهنية. ثمة بون شاسع بين ما يشغل اهتمامات الطبقة السياسية المهيمنة على المشهد العراقي بتنويعاته المختلفة، وما حققته وما تحققه "ابنة العراق" من انجازات حقيقية، اغنت بها الخطاب الثقافي والمهني العالميين. بيد ان حالة عدم الاكتراث والتجاهل والتناسي لكل ماهو ثقافي وطليعي ومؤثر، التى تلف المشهد العراقي اليوم، لا يتعين ان تكون ذريعة لصمت المثقفيين والمهنيين وغيرهم من المتنوريين تجاه ما يحصل الان. فالواجب الاخلاقي والمهني للمثقفيين (وهو واجب طبيعي ومنتظر)، يستدعي ايقاف تأثيرات تلك الحالة وتفكيك ادواتها، لجهة تبيان ما تجره من تخلف وما تحدثه من ظلامية للعراق ولاهله.
نسمع بين فترة وآخرى، تداول اسم زهاء حديد على لسان بعض المسؤوليين المحليين. لكن الفجوة العميقة الفاصلة بين ذهنية اؤلئك المسؤوليين وبين طبيعة ما تشتغل عليه زهاء من طروحات تصميمية، تجعلنا نتوخى الحذر ازاء غايات ومرامي ذلك التداول، الذي قد يراد به ايجاد اساليب متنوعة لتلميع ذاتي، اكثر بكثير من اعطاء انطباع لاهتمام جدي لما تجترحه المصممة العالمية. في المقابل يمكن لبلد زهاء الاصلي ان يمنح العالم (ويمنح نفسه ايضا!)، عطية مميزة، بالحفاظ على اكثر الاماكن خصوصية في حياة الانسان: الحفاظ على "دارة زهاء" وبيتها، بصفته، وفقا لتعبير الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" (1884-1962)، "الملاذ الحميمي الذي يعود اليه الانسان دائما مهما تبدلت به الظروف والمتغيرات"؛ كما يشير في كتابه الرائع . انه بيت العائلة الذي لطالما جسد "الحيز السعيد" او "المكان المحبوب"، وقبل ذلك بالطبع الحيز الحميم، الحيز الملاذ، اي في كلمة اكثر بساطة، كما يذكرنا بذلك الناقد "ابراهيم العريس": ذلك البيت الذي نجده في حلم اليقظة وفي كتابات الشعراء، يظهر بصفته "مبدأ حقيقياً للاندماج السيكولوجي للعالم في داخل الانا"!؛ انه باختصار شديد: البيت الاول، مسقط الرأس وحيز المستقبل، هو الذي مابرحنا نحلم به، ساكناً احلامنا، حتى وان كان وجوده المادي ..حقيقياً. ومن الجملة الاخيرة، من الحقيقة المادية لـ "دارة زهاء" في عاصمة بلدها الاصلي، يتساءل المرء ماذا حلّ بتلك الدارة، وبما آلت اليه الامور؟.
نعرف ان "بيت محمد حديد"، وهو بالطبع "بيت زهاء حديد" ، يقع في منطقة البتاويين، خلف ما كان يعرف "بالبيت الابيض"- مقر ضيوف الدولة العراقية سابقاً. وقد تم تشييده في الثلاثينات او بالاحرى في النصف الثاني من الثلاثينات. نعرف ايضا، ان مصممه مهندس سوري كان يعمل في العراق وقتئذٍ، اسمه "بدري قدح". وقد صمم ايضا دورا سكنية للنخية العراقية وقتذاك، بضمنها بيت كامل الجادرجي في شارع طه بالاعظمية، وبيت عبد العزيز القصاب بكرادة مريم بالكرخ. كما انه مصمم "كلية فيصل" في الاعظمية، بالقرب من الضريح الملكي. هذا بالاضافة الى عمله المتنوع والمتشعب في مديرية الاشغال العمومية. واحتفظ شخصيا في ارشيفي الخاص على صورة تصميم له شارك به في مسابقة معمارية اجريت في الثلاثينات لتصميم "المتحف الاسلامي ببغداد"؛ وتبين لي، لاحقا، بان المعالجات التصميمية للمشروع المقدم تشبه الى حد كبير الحلول التكوينية لمبنى عام دمشقي، كان قيد شيد في العاصمة السورية في وقت سابق. ورغم اهمية ما صمم بدري قدح في عراق الثلاثينات، فان سيرته الذاتية ظلت مشوبة بالغموض. لكن زميلي د. احسان فتحي استطاع ان يجمع معلومات عنه، تفيد بانه مولود في دمشق سنة 1905، وتوفي فيها (1972). وقد درس الهندسة في كلية الاشغال العمومية في باريس مابين 1928الى 1931،(والمرجح بانه درس الهندسة المدنية وليس العمارة)؛ وعمل في بغداد التى وصلها سنة 1932، وظل فيها لحين حركة رشيد عالي في 1941، بعدها غادر الى المانيا.
لقد زرت ميدانياً غالبية المباني المصممة من قبل بدري قدح، انطلاقاً من اهتمامي بمنجز عمارة الحداثة بالعراق: الموضوع الاثير لدي، اكاديمياً وشخصياً. احياناً كانت تلك الزيارات بصحبة اصدقاء لي، لهم علاقة ما مع تلك المباني.؛ فمع رفعة الجادرجي زرت بيت والده في شارع طه، ومع خالد القصاب في الثمانينات، عاينت بيت ابيه في الكرخ. وعندما ابديت رغبة، في التسعينات، لدى استاذي وصديقي (المرحوم الآن) المعمار جعفر علاوي، بزيارة بيت محمد حديد، وافق سريعا، ونظـّم لي زيارة خاصة الى محمد حديد، ولكن في ...فندق الرشيد، الذي اليه انتقل "حديد" للسكن في احد اجنحته، بدلا من العيش في بيت شبه فارغ من اهله وسكانه، الذين تفرقوا عنه بحكم طبيعة عملهم واهتماماتهم. لكني استدليت، لاحقا، عن البيت، وعرفت مكانه تحديدا، جراء شروحات اصدقائي ومعارفي عنه، بضمنهم محمد حديد نفسه.
عندما حرصت على تصوير الدار، اثناء وجودي في بغداد مؤخرا، كمكان مهم ثقافيا ومعماريا على المستويين المحلي والعالمي، كونه بيت زهاء حديد، اصطحبت معي صديقي "رغيب اموري" المصور الفوتوغرافي، تأمينا وتشجيعا لي من تبعة احتمالات الاسئلة التى قد يثيرها الكثيرون، اثناء التصوير في مدينة تعيش على وقع العمليات الارهابية التى تطيلها بين فترة وآخرى. و"رغيب" بجسمه الضخم، ووثيقته الهامة التى تشير بانه صحفي ومصور فوتوغرافي، يعرف جيدا ادارة الحديث مع كل من تسول له نفسه طرح تساؤلات عن ماذا نعمل، ولاية غاية نصور!. لكني، وتحت وطأة احتمالات المساءلة من قبل اياً كان، وما تثيره رؤية الكاميرا من وجل ورعب حقيقيين لدى المارة، ظللت طريقي الى البيت المقصود. وتبين لي لاحقا، باننا صورنا دارا، لاتمت لزهاء او لاهلها بصلة. وعند رجوعي الى ارشيفي التصويري، تحقق حدسي في الخطأ المرتكب. وفي اليوم التالي زرت المنطقة بمفردي وعرفت مكمن خطأي. وظهر ان الدار المصورة تبعد عشرات الامتار عن بيت زهاء الذي يقع مباشرة خلف القصر الابيض.
على ان وقع هذه الحادثة، اثارت لدي شكا ممزوجا بالارتياب، عن امكانية خطأ الاستدلال الصحيح عن البيت المقصود. ماذا لو ان البيت الذي احدس بانه بيت زهاء، هو ليس بيتها؟ من الذي يؤكد ذلك، ويجعله مطابقاً؟. اين يمكنني ان استقي المعلومة الصحيحة والمؤكدة؟ هل يمكن ان تسعفني المؤسسات الاكاديمية والمهنية المهتمة في العمارة والعمران؟ - لا اعتقد، لاني واثق بان ارشيف المدارس المعمارية العاملة في بغداد لا تمتلك مثل هذه الجزئيات او ما شابهها. كما اني اشك بان المؤسسات المهنية الاخرى يقع ضمن اهتماماتها مثل هذه المعلومات. وتبين لي عمق تراجيديا الحالة العراقية، تلك الحالة، التى ظلت تعتمد على "التاريخ الشفاهي" في تسجيل احداث البلاد. وبضياع الوثائق القليلة المكتوبة وتلفها، ولاسيما في الفترة الاخيرة، بدت المدينة التى اسعى وراء البحث عن تاريخها المعماري، وكأنها فاقدة لذاكرتها!. لكني اعلم، بان الاسهاب في الحديث عن هذه المسألة الشائكة والمحزنة والموجعة، ليس مكانه هنا. فانا في حاجة ماسة لازالة شكوكي التى نبتت فجأة امامي، جراء اعتمادي على " شفاهية المعلومة" التى امتلكها.
وباستدلالي على فكرة طريفة، مفادها إمكانية مراسلة زهاء حديد نفسها، لتأكيد عائدية البيت المعني، سارعت للكتابة اليها، راجيا الحصول على تأكيدات منها على ما يدور عندي من شكوك. واجابت بسرعة، مستفسرة عن طريق سكرتيرتها الشخصية الانسه "مي يي جنغ" Mey Yee Cheng ، وكما توقعت، عن من اكون، وعن طبيعة ما اقوم به من دراسة، وهل يمكن ارسال صور اضافية وخصوصا للواجهة الامامية؟ وتم ارسال ما ارادت، واستلمت منها رسالة اخرى عن طريق السكرتيرة، مندهشة للحالة التى وصلت اليها الدار، ومتساءلة هل يمكن ان يكون احدا ما ساكنا فيه؟. وبهذا فقد ازالت زهاء، في الاخير تلك الشكوك عن عائدية المبنى. وبقى عليّ ان اعجل في تصويره، مرة اخرى، توجسا من امكانية هدمه او تلفه او ضياع معالمه الاصلية. واستنجدت في هذه المرة، باصدقائي في مؤسسة "المدى"، لتسهيل عملية المسح التصويري. وبتعاضد من الصديق علاء المفرجي، وبمساعدته، تمت الموافقة بسرعة، على ان يرافقني مصور الجريدة، مزودا بكتاب صادر عن ادارة المدى، لتسهيل مهمتنا التصويرية ومعنون لمن يهمه الامر!.
لم نستطع تصوير البيت من الداخل، كان مقفلاً، والحارس المسؤول عنه مختفٍ منذ فترة، كما قيل لنا. واكتفيت بلقطات خارجية سريعة له، تظهر التجاوزات البنائية الكارثية غير المقبولة والحالة المزرية التى آل اليها البيت العتيد؛ ذلك البيت الذي منح طفولة زهاء حديد، عالماً خاصاً مكتنزاً بزواياه الحميمية، والتى بها، ووفقا دائما لكلمات غاستون باشلار، بمقدور الطفل ان "يتمدد ويعيش ويتأرجح كما يحلو له، مؤسسا بيته الخاص به، داخل البيت الكبير..".
..وهذا البيت الكبير، المنزوي الآن في حي البتاويين ببغداد، يمكن له ان يكون منتدى معماريا، تقام به المعارض الفنية وتعرض في احيازه مشاريع العمارة والعمران، وتسمع في ارجاءه محاضرات واحاديث عن الفن والعمارة، والاهم ان تكون هيئته المعمارية متطابقة مع فترة سكن زهاء حديد به، كمكان مميز، واجب الحفاظ، يستقي اهميته من اهمية المرأة التى ولدت وترعرت فيه، هي التى تعتبر الآن فخر الثقافة الانسانية، وليكن حضوره، ايضا، اشارة احترام وتقدير لابنة العراق من قبل بلدها الاصلي.
واذ اناشد جميع المؤسسات المحلية المهتمة بالثقافة والعمران، للعمل سريعا على اعادة البيت العتيد، الى ما يمكن ان يكون رمزا ثقافيا وفضاءا حضاريا، فاني ادعو تحديدا الجمعية العراقية لدعم الثقافة، والتمس من صديقيّ مفيد الجزائري ود. معتز غزوان، وكذلك اناشد مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون، ورئيسها المحب للثقافة فخري كريم، كما اناشد الاستاذة ميسون الدملوجي، بصفتها نائبة بالبرلمان، وبصفتها رئيسة للتجمع النسائي العراقي المستقل، وبصفتها مثقفة وبكونها معمارة، ايضا؛ واناشد بشكل خاص جميع الجمعيات النسوية العراقية، والتمس المساعدة من المثقف الاستاذ سعدون الدليمي، وزير الثقافة، مثلما التمسها من الاستاذ صابر العيساوي، امين بغداد، والمحب الى رؤية عاصمتنا مدينة مزدهرة وثقافية، كما استنجد بالمكاتب الثقافية في رئاسة الجمهورية، و بمكاتب دولة رئيس الوزراء، للعمل معا والتنسيق مع اصحاب البيت الشرعيين، في تحويل "دارة زهاء" الى فضاء ثقافي، بمقدوره ان يدخل سجل اليونسكو الثقافي الواجب الحفاظ، وليكن حضوره في المشهد الثقافي العراقي بمنزلة أيماءة احترام لها من ناس وطنها الاصلي، ودلالة تقدير تليق بابنة العراق الذي رفعت اسم بلدها عاليا بين الامم.
د. خالد السلطاني
د. خالد السلطاني
... وزهاء، الواردة في العنوان، هي طبعاً، "زهاء حديد": المعمارة المتميزة والمجددة، ذات الشهرة العالمية الواسعة؛ و"دارتها"- هو بيتها البغدادي، الذي ولدت فيه بتاريخ 31 تشرين الاول 1950، وترعرعت به، قبل ان ترحل الى لبنان، لدراسة الرياضيات في الجامعة الامريكية ببيروت، ومن ثم الى المملكة المتحدة، سنة 1972، لكن هذه المرة لدراسة العمارة، التى نالت شهادة تخرجها عام 1977، من "مدرسة العمارة التابعة للجمعية المعمارية" AA school of Architecture العريقة بلندن، المعروفة اختصارا بـ "AA"،. وقد انضمت مباشرة عند حصولها على دبلومها المعماري، الى مكتب استاذها "ريم كولهاس"، لكنها سرعان ما تركته لتؤسس لنفسها، بعد ذلك، مكتبا استشاريا خاصا بها عام 1979.
ومنذ نجاحها المدوي، في مسابقة مشروع (القمة) Peak في هونغ كونغ عام 1982، باحرازها المرتبة الاولى، عرف العالم المهني مقاربتها المعبرة شديدة االتميز، التى ظلت على امتداد سنين طويلة تسعى وراء انضاج لغتها، مرسخة تمثلاتها في مشاريع معمارية، ابهرت الوسط المعماري لجهة جدة طروحاتها التكوينية وقطيعتها مع المتداول التصميمي في آن؛ مستلهمة خصائص مقاربتها من الحفر في اركيولوجية الحركات الحداثية المعمارية بضمنها التكعيبية والمستقبلية، والسوبرماتية، والكونستروكتفيزم، فضلا على اهتمامها ورصدها لخصائص عمارة مجايليها وما قبلهم، وخصوصا اعمال لو كوربوزيه المتأخرة واشتغالات "اوسكار نيماير" التصميمية المتجددة.
تتربع، الآن، زهاء حديد، على ارث تصميمي، اجتهدت، بدأب نادر، ان تصوغ عناصره بجهدها الذاتي، ما اهلّ مكتبها المعماري، ليكون واحدا من اشهر مكاتب الاستشارية العالمية في الوقت الحالي. ان عمارة زهاء، تحضر الآن حضورا بليغاً في المشهد المعماري العالمي، بفضل استثنائية لغتها المميزة، وهي لهذا تشكل أهمية قصوى في تنوعيات منجز ذلك المشهد. وهذه الاهمية تستقيها، كما اشرنا في دراستنا الاخيرة عنها، من كونها ".. تعتبر احدى تجليات مفاهيم ما بعد الحداثة، المفاهيم القادرة، تبعا لخصوصيتها المعوّمة، على إستيلاد مقاربات جديدة ومتجددة. فعمارتها تنزع للتعبير عن مرجعية تصميمية هي خليط بين توق توظيف الاشارات المجازية والسعي وراء الافصاح عن هوى التجريد. انها في هذه الحالة تتخطى حتى اطر مفاهيم المقاربة "التفكيكية"، المتخمة عادة بغرائبية الاشكال التصميمية والمتجاوزة "للتابوات" البصرية. لكن عمارتها مع هذا، (وربما بالاضافة الى هذا)، تظل امينة لتحقيق مفهوم "الازاحة" Displacement في دلالاته التفكيكية، فهي تنزع الى "فك ارتباط" العمارة من خاصية الاستقرار والتموضع. وهذا النزوع يظل بالطبع مشوب بالمفارقة. ذلك لان الامر كما يقول "بيتر ايزينمان" (وهو احد مناصري المنهج التفكيكي المعماري)، يتطلع الى "نزع شيئا من موضعه هو بالاساس متموضع!". انها بالتالي، تدعونا الى نسيان وحتى هجر ما وسم العمارة السابقة من قيم ومبادئ، واحلال بدلا عنها قيماً جديدة تكون متساوقة مع متطابات العصر، عصر المعرفة المتجددة، والبيئة المعلوماتية المتحمكة بها الالكترونيات, انها باختصار تدفع في اتجاه الغاء قوانين الهندسة الاقليدية المألوفة، والتوجه نحو صياغات تكوينية تتحدى قوانين الجاذبية، وتكون متخمة بالالتواءات والانحرافات والهشاشة والتنافر والتشظي وعدم التناغم بين عناصرها التصميمة".
تمثل عمارة زهاء حديد، الآن، ظاهرة لافتة في المشهد المعماري ما بعد الحداثي. وتستقي تلك الظاهرة مقوماتها، ليس فقط، من تأثيرات الجانب الايجابي المتعاطف مع خصوصية تلك العمارة، وانما ايضا، بسبب ما تثيره تلك العمارة من سجال مهني وما تحدثه من تباين في الرؤى، لجهة تقبل تلك العمارة، أو رفض لها. فمثلما تحظى عمارتها باعجاب البعض وتعاطفه معها، فهي ايضا تجد عدم اكتراث وحتى انكار، يصل حد الاستهجان، من لدن البعض الآخر من المتلقيين العاديين وحتى المهنيين. لكن عمارتها، مع هذا، ماانفكت تعتبر تمثيلا لاوج اللحظة الابداعية في الفكر المعماري المعاصر. ويتساءل المرء، كيف قدر لامرأة، (وفوق ذلك، امرأة ذات اصول شرقية!)، ان تحقق بمفردها، تلك الانجازات المعمارية المرموقة؟!. ربما، وحدهم المهنيون، الساكنون في الغرب، او المقيمون فيه؛ هم الذين يعرفوا جيدا حدة سباق الافكار المتصارعة هناك، بوسعهم ان يقيموا، بموضوعية، نوعية المأثرة الابداعية وطبيعتها التى اجترحتها زهاء حديد، عندما ارتقت بعمارتها لتكون حدثا فنيا فريدا ومؤثرا، في الخطاب المعماري العالمي!. اذ لا تزال الغالبية العظمى من المتلقيين، تعتقد ان مجرد وجود الانسان في الغرب، يعتبر امرا كافيا (وكفيلاً) لان تفتح امامه ابواب عديدة؛ تقود جميعها، نحو الشهرة او الثراء، متغافلين عن جهل او تجاهل ضراوة ذلك السباق الابداعي واشتراطاته القاسية لجهة تأمين موقع قدم متقدم فيه.
يقال ان توافر وتعايش مجموعة من المؤثرات والوقائع المختلفة وحضورها جنباً الى جنب بالمشهد، في لحظة تاريخية محددة، يسهم في تأسيس، ومن ثم تكوّن ظاهرة ابداعية ما، ويبرزها في الخطاب. لكن ذلك التأسيس المفضي الى التكوين، يستدعي اولاً، واساساً، حضور فرد (افراد)، بحسّ خاص، يتمتع بقابلية نادرة للاستشعار بوجود حراك تلك المؤثرات والاحساس بحضور تلك الوقائع، ويمتلك في الوقت ذاته، امكانات استثنائية تؤهله القيام بتمثيل تلك الظاهرة وتحمل عواقبها. يقال ايضاً، أن الظروف الموضوعية التى شكلت الخطاب الابداعي في لندن وقتذاك، وتحديداً في نهاية السبعينات، بضمنها الخطاب المعماري، المنطوي على تكثيف ارهاصات التغيير في الذائقة الفنية، والحافل بشيوع الافكار التنظيرية المتنوعة، الحاثة على العصيان لما هو سائد تصميمياً والتمرد عليه، ووصول مسار الحداثة المعمارية الى ما يشبه الطريق المسدود، متمظهراً باختناقات اسلوبية، والمهم ايضا، "مصادفة" وجود زهاء حديد: المتخرجة توا من الـ "AA" ، هي الغاصة في هوى التجديد، والقريبة جدا من مركز بث الافكار التجديدية الداعية الى التغيير والقطيعة معا؛ ما جعل عمارة الاخيرة توصف كاحدى أهم تجليات تلك الظاهرة الابداعية، والتعبير الكفوء لها. بمعنى آخر، توافر لعمارة زهاء، ما لا يمكن ان يتوافر لغيرها: لحظة تاريخية فريدة، تجمع بين نضوج المؤثرات الضاغطة لتشكيل الظاهرة الابداعية الجديدة، مع جهوزية التوق الشخصي لتمثيل نتائج تلك المؤثرات.
هل كان ذلك التلاقي محض "صدفة"، بحيث استطاعت المعمارة ان تجيّر تأثيراته لصالحها ولجهة مقاربتها التصميمية؟
- ربما!. وهل ان "اقتناص" الصدف، امراً معيباً؟؛ رغم اننا نميل للاعتقاد مع كارل ماركس، من ان "الصدفة: ضرورة تاريخية"!. ومهما يكن فان اللحظة الابداعية المنشودة، قد ُفهمت، وتم الامساك بها، والاشتغال على "منوالها". ولتنطوي السنين القادمة على مزيد من ترسيخ مقاربة معمارية مميزة في الخطاب، دأبت زهاء بجهد مضنٍ، واجتهاد عالٍ على اظهارها بمزيد من التألق والتجدد والفرادة التكوينية. وبات "الديبو" Début الجرئ والمثير للسجال، الذي ظهرت به زهاء، فجأة، في بداية الثمانينات، وقد بدا يشكل بالوقت الراهن، سجلا غنياً من الانجازات الابداعية الهامة والمتنوعة. فهي، الان، ليست "معمارة قرطاس" Paper Architect ، كما كان يطلق عليها؛ وانما صاحبة مشاريع متعددة منفذة في مناطق جغرافية واثنية مختلفة، تمتد من اقاصي الصين مرورا باوربا وبلدان الشرق الاوسط، لتصل الاراضي الامريكية البعيدة. وامسى الكثير من مبانيها ذات الوظائف المتنوعة، بمثابة "ايقونة" معمارية في فضاءات المدن التى نفذت فيها. وهي الان، تحصد الجوائز المهنية الرفيعة ذات الاعتبار المهني العالي، فهي المعمارة / المرأة الاولى، التى نالت جائزة بريتزكر Pritzker المرموقة (2004)، وقبلها في عام 2003، حازت على جائزة الاتحاد الاوربي للعمارة المعاصرة، كما منحت جائزة "ريبا" البريطانية على مدى سنين عديدة: في 2005، و2008، و2010، وفي عام 2007، ونالت جائزة "ميس فان دير رو" المعمارية الاوربية، كما حصلت على جوائز خاصة من الولايات المتحدة وغيرها من البلدان.
وتحرص المتاحف الفنية العالمية والغاليريات المشهورة على تنظيم معارض خاصة لتصاميمها المعمارية وغير المعمارية، ففي عام 1995، نظم معرض لها في مدرسة الدراسات العليا للتصميم في جامعة هارفرد الامريكية، وفي سنة 1997 افتتح معرضها في متحف الفن الحديث في سان فرنسيسكو، وافرد لها حيزا خاصا في جناح بريطانيا في بينالي فينيسيا عام 2000، ونظم متحف الفن التطبيقي الحديث في فيينا معرضا خاصا لها عام 2003، وقبلها في عام 2002، كانت اعمالها موضوعا لمعرض اقيم في المركز الوطني للفن الحديث في روما. ونظم معرضا شاملا استعاديا لها ولاعمالها في متحف "سالمون غوغنيهايم" الشهير في نيويورك عام 2006، وفي السنة التالية (2007)، نظم "متحف التصميم" بلندن معرضا لاعمالها.
وهي بالاضافة الى عملها التدريسي في مدرسة AA بلندن، فهي ايضا استاذة زائرة لدى اشهر المؤسسات الاكاديمية العالمية، فقد عملت في هارفرد، وبرينستون وفي جامعة فيينا والمانيا واليابان وحصلت على اعلى الشهادات التقديرية من مؤسسات اكاديمية رصينة. وصور فيلم خاص عنها (يوم مع زهاء حديد) في عام 2004، انتجته نيويورك. وينشر، كل عام، عنها مزيدا من الكتب العلمية، التى تعدد وتسجل مقاربتها التصميمة وتقيمها. كما لايخلو اي عدد من اعداد المجلات المعمارية المعروفة العالمية، عن متابعة جادة لتصاميمها المتنوعة. وعدتها مجلة " فوربيس" Forbes عام 2008 في المرتبة 69 في قائمتها: (اقوي 100 امرأة في العالم)!. كما سمتها مجلة "تايم" الامريكية في سنة 2010، ضمن لائحتها المتكونة من 100 شخصية مفكرة ومؤثرة في العالم. اما مجلة "نيو ستيتسمان" البريطانية فقد اختارتها في ايلول عام 2010 بمرتبة 42 من قائمتها السنوية الخاصة (اهم 50 شخصية نافذة في العالم). انها باختصار احدى اهم نساء العالم: اهمية وشهرة وتأثير، وفقا لرأي واستفتاء المراكز الاعلامية العالمية المرموقة.
لكن هذه المرأة المشهورة عالميا، والمؤثرة دوليا، والفريدة في طروحاتها التصميمية، ما انفكت تذكر بانها ابنة العراق، المولودة في عاصمته بغداد. وهي تشير الى ذلك في جميع سيرها الذاتية المنشورة، رافعة بذلك، اسم العراق عالمياً: وطنها الاول ومؤكدة على انتمائها له. لكن بلدها، مع الاسف، لا يعرف عنها الكثير: لا يتابع طبيعة انجازها، ولا يكترث بمقاربتها المهنية. ثمة بون شاسع بين ما يشغل اهتمامات الطبقة السياسية المهيمنة على المشهد العراقي بتنويعاته المختلفة، وما حققته وما تحققه "ابنة العراق" من انجازات حقيقية، اغنت بها الخطاب الثقافي والمهني العالميين. بيد ان حالة عدم الاكتراث والتجاهل والتناسي لكل ماهو ثقافي وطليعي ومؤثر، التى تلف المشهد العراقي اليوم، لا يتعين ان تكون ذريعة لصمت المثقفيين والمهنيين وغيرهم من المتنوريين تجاه ما يحصل الان. فالواجب الاخلاقي والمهني للمثقفيين (وهو واجب طبيعي ومنتظر)، يستدعي ايقاف تأثيرات تلك الحالة وتفكيك ادواتها، لجهة تبيان ما تجره من تخلف وما تحدثه من ظلامية للعراق ولاهله.
نسمع بين فترة وآخرى، تداول اسم زهاء حديد على لسان بعض المسؤوليين المحليين. لكن الفجوة العميقة الفاصلة بين ذهنية اؤلئك المسؤوليين وبين طبيعة ما تشتغل عليه زهاء من طروحات تصميمية، تجعلنا نتوخى الحذر ازاء غايات ومرامي ذلك التداول، الذي قد يراد به ايجاد اساليب متنوعة لتلميع ذاتي، اكثر بكثير من اعطاء انطباع لاهتمام جدي لما تجترحه المصممة العالمية. في المقابل يمكن لبلد زهاء الاصلي ان يمنح العالم (ويمنح نفسه ايضا!)، عطية مميزة، بالحفاظ على اكثر الاماكن خصوصية في حياة الانسان: الحفاظ على "دارة زهاء" وبيتها، بصفته، وفقا لتعبير الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" (1884-1962)، "الملاذ الحميمي الذي يعود اليه الانسان دائما مهما تبدلت به الظروف والمتغيرات"؛ كما يشير في كتابه الرائع . انه بيت العائلة الذي لطالما جسد "الحيز السعيد" او "المكان المحبوب"، وقبل ذلك بالطبع الحيز الحميم، الحيز الملاذ، اي في كلمة اكثر بساطة، كما يذكرنا بذلك الناقد "ابراهيم العريس": ذلك البيت الذي نجده في حلم اليقظة وفي كتابات الشعراء، يظهر بصفته "مبدأ حقيقياً للاندماج السيكولوجي للعالم في داخل الانا"!؛ انه باختصار شديد: البيت الاول، مسقط الرأس وحيز المستقبل، هو الذي مابرحنا نحلم به، ساكناً احلامنا، حتى وان كان وجوده المادي ..حقيقياً. ومن الجملة الاخيرة، من الحقيقة المادية لـ "دارة زهاء" في عاصمة بلدها الاصلي، يتساءل المرء ماذا حلّ بتلك الدارة، وبما آلت اليه الامور؟.
نعرف ان "بيت محمد حديد"، وهو بالطبع "بيت زهاء حديد" ، يقع في منطقة البتاويين، خلف ما كان يعرف "بالبيت الابيض"- مقر ضيوف الدولة العراقية سابقاً. وقد تم تشييده في الثلاثينات او بالاحرى في النصف الثاني من الثلاثينات. نعرف ايضا، ان مصممه مهندس سوري كان يعمل في العراق وقتئذٍ، اسمه "بدري قدح". وقد صمم ايضا دورا سكنية للنخية العراقية وقتذاك، بضمنها بيت كامل الجادرجي في شارع طه بالاعظمية، وبيت عبد العزيز القصاب بكرادة مريم بالكرخ. كما انه مصمم "كلية فيصل" في الاعظمية، بالقرب من الضريح الملكي. هذا بالاضافة الى عمله المتنوع والمتشعب في مديرية الاشغال العمومية. واحتفظ شخصيا في ارشيفي الخاص على صورة تصميم له شارك به في مسابقة معمارية اجريت في الثلاثينات لتصميم "المتحف الاسلامي ببغداد"؛ وتبين لي، لاحقا، بان المعالجات التصميمية للمشروع المقدم تشبه الى حد كبير الحلول التكوينية لمبنى عام دمشقي، كان قيد شيد في العاصمة السورية في وقت سابق. ورغم اهمية ما صمم بدري قدح في عراق الثلاثينات، فان سيرته الذاتية ظلت مشوبة بالغموض. لكن زميلي د. احسان فتحي استطاع ان يجمع معلومات عنه، تفيد بانه مولود في دمشق سنة 1905، وتوفي فيها (1972). وقد درس الهندسة في كلية الاشغال العمومية في باريس مابين 1928الى 1931،(والمرجح بانه درس الهندسة المدنية وليس العمارة)؛ وعمل في بغداد التى وصلها سنة 1932، وظل فيها لحين حركة رشيد عالي في 1941، بعدها غادر الى المانيا.
لقد زرت ميدانياً غالبية المباني المصممة من قبل بدري قدح، انطلاقاً من اهتمامي بمنجز عمارة الحداثة بالعراق: الموضوع الاثير لدي، اكاديمياً وشخصياً. احياناً كانت تلك الزيارات بصحبة اصدقاء لي، لهم علاقة ما مع تلك المباني.؛ فمع رفعة الجادرجي زرت بيت والده في شارع طه، ومع خالد القصاب في الثمانينات، عاينت بيت ابيه في الكرخ. وعندما ابديت رغبة، في التسعينات، لدى استاذي وصديقي (المرحوم الآن) المعمار جعفر علاوي، بزيارة بيت محمد حديد، وافق سريعا، ونظـّم لي زيارة خاصة الى محمد حديد، ولكن في ...فندق الرشيد، الذي اليه انتقل "حديد" للسكن في احد اجنحته، بدلا من العيش في بيت شبه فارغ من اهله وسكانه، الذين تفرقوا عنه بحكم طبيعة عملهم واهتماماتهم. لكني استدليت، لاحقا، عن البيت، وعرفت مكانه تحديدا، جراء شروحات اصدقائي ومعارفي عنه، بضمنهم محمد حديد نفسه.
عندما حرصت على تصوير الدار، اثناء وجودي في بغداد مؤخرا، كمكان مهم ثقافيا ومعماريا على المستويين المحلي والعالمي، كونه بيت زهاء حديد، اصطحبت معي صديقي "رغيب اموري" المصور الفوتوغرافي، تأمينا وتشجيعا لي من تبعة احتمالات الاسئلة التى قد يثيرها الكثيرون، اثناء التصوير في مدينة تعيش على وقع العمليات الارهابية التى تطيلها بين فترة وآخرى. و"رغيب" بجسمه الضخم، ووثيقته الهامة التى تشير بانه صحفي ومصور فوتوغرافي، يعرف جيدا ادارة الحديث مع كل من تسول له نفسه طرح تساؤلات عن ماذا نعمل، ولاية غاية نصور!. لكني، وتحت وطأة احتمالات المساءلة من قبل اياً كان، وما تثيره رؤية الكاميرا من وجل ورعب حقيقيين لدى المارة، ظللت طريقي الى البيت المقصود. وتبين لي لاحقا، باننا صورنا دارا، لاتمت لزهاء او لاهلها بصلة. وعند رجوعي الى ارشيفي التصويري، تحقق حدسي في الخطأ المرتكب. وفي اليوم التالي زرت المنطقة بمفردي وعرفت مكمن خطأي. وظهر ان الدار المصورة تبعد عشرات الامتار عن بيت زهاء الذي يقع مباشرة خلف القصر الابيض.
على ان وقع هذه الحادثة، اثارت لدي شكا ممزوجا بالارتياب، عن امكانية خطأ الاستدلال الصحيح عن البيت المقصود. ماذا لو ان البيت الذي احدس بانه بيت زهاء، هو ليس بيتها؟ من الذي يؤكد ذلك، ويجعله مطابقاً؟. اين يمكنني ان استقي المعلومة الصحيحة والمؤكدة؟ هل يمكن ان تسعفني المؤسسات الاكاديمية والمهنية المهتمة في العمارة والعمران؟ - لا اعتقد، لاني واثق بان ارشيف المدارس المعمارية العاملة في بغداد لا تمتلك مثل هذه الجزئيات او ما شابهها. كما اني اشك بان المؤسسات المهنية الاخرى يقع ضمن اهتماماتها مثل هذه المعلومات. وتبين لي عمق تراجيديا الحالة العراقية، تلك الحالة، التى ظلت تعتمد على "التاريخ الشفاهي" في تسجيل احداث البلاد. وبضياع الوثائق القليلة المكتوبة وتلفها، ولاسيما في الفترة الاخيرة، بدت المدينة التى اسعى وراء البحث عن تاريخها المعماري، وكأنها فاقدة لذاكرتها!. لكني اعلم، بان الاسهاب في الحديث عن هذه المسألة الشائكة والمحزنة والموجعة، ليس مكانه هنا. فانا في حاجة ماسة لازالة شكوكي التى نبتت فجأة امامي، جراء اعتمادي على " شفاهية المعلومة" التى امتلكها.
وباستدلالي على فكرة طريفة، مفادها إمكانية مراسلة زهاء حديد نفسها، لتأكيد عائدية البيت المعني، سارعت للكتابة اليها، راجيا الحصول على تأكيدات منها على ما يدور عندي من شكوك. واجابت بسرعة، مستفسرة عن طريق سكرتيرتها الشخصية الانسه "مي يي جنغ" Mey Yee Cheng ، وكما توقعت، عن من اكون، وعن طبيعة ما اقوم به من دراسة، وهل يمكن ارسال صور اضافية وخصوصا للواجهة الامامية؟ وتم ارسال ما ارادت، واستلمت منها رسالة اخرى عن طريق السكرتيرة، مندهشة للحالة التى وصلت اليها الدار، ومتساءلة هل يمكن ان يكون احدا ما ساكنا فيه؟. وبهذا فقد ازالت زهاء، في الاخير تلك الشكوك عن عائدية المبنى. وبقى عليّ ان اعجل في تصويره، مرة اخرى، توجسا من امكانية هدمه او تلفه او ضياع معالمه الاصلية. واستنجدت في هذه المرة، باصدقائي في مؤسسة "المدى"، لتسهيل عملية المسح التصويري. وبتعاضد من الصديق علاء المفرجي، وبمساعدته، تمت الموافقة بسرعة، على ان يرافقني مصور الجريدة، مزودا بكتاب صادر عن ادارة المدى، لتسهيل مهمتنا التصويرية ومعنون لمن يهمه الامر!.
لم نستطع تصوير البيت من الداخل، كان مقفلاً، والحارس المسؤول عنه مختفٍ منذ فترة، كما قيل لنا. واكتفيت بلقطات خارجية سريعة له، تظهر التجاوزات البنائية الكارثية غير المقبولة والحالة المزرية التى آل اليها البيت العتيد؛ ذلك البيت الذي منح طفولة زهاء حديد، عالماً خاصاً مكتنزاً بزواياه الحميمية، والتى بها، ووفقا دائما لكلمات غاستون باشلار، بمقدور الطفل ان "يتمدد ويعيش ويتأرجح كما يحلو له، مؤسسا بيته الخاص به، داخل البيت الكبير..".
..وهذا البيت الكبير، المنزوي الآن في حي البتاويين ببغداد، يمكن له ان يكون منتدى معماريا، تقام به المعارض الفنية وتعرض في احيازه مشاريع العمارة والعمران، وتسمع في ارجاءه محاضرات واحاديث عن الفن والعمارة، والاهم ان تكون هيئته المعمارية متطابقة مع فترة سكن زهاء حديد به، كمكان مميز، واجب الحفاظ، يستقي اهميته من اهمية المرأة التى ولدت وترعرت فيه، هي التى تعتبر الآن فخر الثقافة الانسانية، وليكن حضوره، ايضا، اشارة احترام وتقدير لابنة العراق من قبل بلدها الاصلي.
واذ اناشد جميع المؤسسات المحلية المهتمة بالثقافة والعمران، للعمل سريعا على اعادة البيت العتيد، الى ما يمكن ان يكون رمزا ثقافيا وفضاءا حضاريا، فاني ادعو تحديدا الجمعية العراقية لدعم الثقافة، والتمس من صديقيّ مفيد الجزائري ود. معتز غزوان، وكذلك اناشد مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون، ورئيسها المحب للثقافة فخري كريم، كما اناشد الاستاذة ميسون الدملوجي، بصفتها نائبة بالبرلمان، وبصفتها رئيسة للتجمع النسائي العراقي المستقل، وبصفتها مثقفة وبكونها معمارة، ايضا؛ واناشد بشكل خاص جميع الجمعيات النسوية العراقية، والتمس المساعدة من المثقف الاستاذ سعدون الدليمي، وزير الثقافة، مثلما التمسها من الاستاذ صابر العيساوي، امين بغداد، والمحب الى رؤية عاصمتنا مدينة مزدهرة وثقافية، كما استنجد بالمكاتب الثقافية في رئاسة الجمهورية، و بمكاتب دولة رئيس الوزراء، للعمل معا والتنسيق مع اصحاب البيت الشرعيين، في تحويل "دارة زهاء" الى فضاء ثقافي، بمقدوره ان يدخل سجل اليونسكو الثقافي الواجب الحفاظ، وليكن حضوره في المشهد الثقافي العراقي بمنزلة أيماءة احترام لها من ناس وطنها الاصلي، ودلالة تقدير تليق بابنة العراق الذي رفعت اسم بلدها عاليا بين الامم.
د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
تعليقات
إرسال تعليق