| |||||||||||||
تحدثت في المقال الماضي عن علم العمران كما اكتشفه ابن خلدون، وأن هذا العلم يتعدّى فهم طبائع العمران البشري إلى تحويل هذه المفاهيم إلى آليات عمل ومشاريع بناء من خلال فقهٍ سديد يوضح معالم الفعل التكليفي لعمارة الأرض، ومن أجل إثارة الذهن المسلم في إعادة نصاب هذا الفقه للوعي والواقع العملي، فسأبين أهم ملامح هذا الفقه وأهميته في الشريعة الإسلامية من خلال النقاط التالية: أولاً: إن الله تعالى خلق الإنسان في الحياة الدنيا لغايتين: عبادته سبحانه كما شرع، و عمارة أرضه كما أمر، وكان الخطاب القرآني يرتكز على مفاهيم وأشكال العبادة أكثر من تركيزه على آليات العمارة، وذلك أن العبادة تلبّستها صور عديدة من الشرك والانحراف أدّت إلى فساد الحرث والنسل، ولأن في صحتها وقوامها المطلوب قوام للحياة ومعاش الناس، ثم إن عمارة الأرض تتوافق مع ما جبل الله تعالى الإنسان عليه من حب التملك والتنافس والتكاثر، فهو يحتاج إلى الاعتدال في طلبه، والامتثال في عمله، ولا يصلح حاله إلاّ بشرعٍ مسدّد، ووحي ملزم يهذّب طبعه من الانحراف والتجاوز. ولا يعني ذلك أن القرآن قد أهمل الطلب أو نفاه؛ بل قد جاء في أكثر من آية تعزيز القيام بالعمارة، كقولة تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)[البقرة: 30]. وقد قال البيضاوي في تفسيرها: "والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه، والهاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي استخلفه الله في عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وتنفيذ أمره فيهم" .(1) وقال ابن عاشور مؤكداً معنى العمارة: "فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي" (2). وقال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61] قال الطبري مؤكداً معنى العمارة في الآية: "(واستعمركم فيها)، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها" (3) وقال البيضاوي: "(واستعمركم فِيهَا) عمركم فيها واستبقاكم من العمر، أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها" (4)، فالإنشاء من الأرض هو في خلق آدم من الأرض؛ لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع، كما قال تعالى: ( أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) [الشعراء: 146- 148]. ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتاً ويبنون في الأرض قصوراً، كما قال في الآية الأخرى: (وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً) [الأعراف: 74]، فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض، فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أُنشئوا منها، ولذلك عطف عليه (واستعمركم فيها). والاستعمار عند كثير من المفسرين هو الإعمار، أي جعلكم عامرينها، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع؛ لأنّ ذلك يُعدّ تعميراً للأرض حتى سُمّي الحرث عِمارة؛ لأنّ المقصود منه عَمر الأرض. (5) فمقصود هذه الآيات وغيرها واضح الدلالة في بيان مقصود العمارة من خلق الإنسان، وأنه واجب على مجموع الخليقة في القيام به، وقد نص على حكم الوجوب الإمام الجصاص في قوله:"(واستعمركم فيها) يعني أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية"(6)، وليس خارجاً هذا التكليف عن مفاهيم الطلب كما زعم البعض. ثانياً: إن من أعظم مقاصد التشريع الذي جاءت بالدلالة عليه جزئيات الشريعة وكلياتها؛ ما يفيد الطلب بالقيام بعمارة الأرض واستصلاحها بما يحقق النفع والقوة للإنسان، وقد حكى هذا المقصد العام من التشريع غير واحد من علماء الفقه والأصول، ومنهم الإمام ابن عاشور في قوله: "إنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعْي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه، ومراعاةِ الإحسان للذي بطَّأ به جُهده، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية" (7). ويقول الشيخ علال الفاسي: "المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، وصلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع" (8) فعمارة الأرض بالبناء و الصناعة والزّراعة والانتفاع بما في باطنها من معادن وخيرات مطلوب من النّاس عامّةً، ومن المسلمين خاصّةً، فهو من مقتضيات الاستخلاف العامّ للنّاس في الأرض. قال الإمام الغزالي: "فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم". (9) ولذلك كان قصد عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- من ضرب الخراج وعدم تقسيمه على الغزاة؛ أن تبقى الأرض عامرةً بالزّراعة فأهلها أقدر من الغانمين على ذلك لتوفّر الخبرة والقدرة على الزّراعة، ولذلك قال في أهلها: يكونون عمّار الأرض؛ فهم أعلم بها وأقوى عليها. وقد سلك عمر -رضي الله عنه- في ذلك مسلك النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- حينما فُتحت خيبر، وصارت الأرض والأموال المغنومة تحت يده، ولم يكن له من العمّال ما يكفون عمارة الأرض وزراعتها، دفعها إلى أهلها على أن يزرعوها ولهم نصف ثمرتها، وبقيت على ذلك طيلة حياة النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- وحياة أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه. فالعمران المدني في حياة الناس ليس هامشياً أو بعيداً عن مراد الشرع؛ بل جاء في أعظم مقاصد الدين، ولا ينبغي للمكلف أن يكون مقصوده مخالفاً لمقصد الشارع، وهذا يقتضي أن العمل والبناء والزراعة و الصناعة وصنوف التعمير هي من مقاصد الشرع الحنيف المطلوبة من عموم المسلمين. وللمقال بقية في العدد القادم بإذن الله. (1) تفسير البيضاوي 1/64. (2) ابن عاشور، التحرير والتنوير 1/208، ولابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة" 1/151 كلام مفيد وتفصيل رشيد حول خلافة الله في أرضه. (3) تفسير الطبري: 15/368. (4) تفسير البيضاوي: 3/103. (5) انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير 7/163. والمعنى اللغوي في العمارة أو الاستعمار يُراد به عمارة الأرض بالزرع والحرث والبناء وهو قول كثير من أئمة اللغة، ومنهم ابن فارس حيث يقول: "من الباب عِمارة الأرض، يقال عَمَرَ الناسُ الأرضَ عِمارةً، وهم يَعْمُرُونها، وهي عامرة معمورةٌ. وقولهم: عامرة، محمولٌ على عَمَرتِ الأرضُ، والمعمورة من عُمِرت. والاسم والمصدر العُمْران: واستَعمر الله تعالى الناسَ في الأرض ليعمرُوها. والباب كلُّه يؤول إلى هذا." معجم مقاييس اللغة: 4/114. (6) الجصاص: أحكام القران 3/378. (7) ابن عاشور: التحرير والتنوير2/449. (8) علال الفاسي: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص 41 و42 . (9) الغزالي: المستصفى 1/483. |
كان المقال الثاني من هذه السلسة في بيان أهم ملامح هذا الفقه، من خلال الحديث عن غائية العمران من خلق الإنسان، وإن مقاصد التشريع جاءت دلالاتها بالتأكيد على هذه الغاية. ونكمل في هذا المقال الأخير بقية الملامح الأولى للتعرف على هذا الفقه.
ثالثاً: أن هناك طلباً تشريعياً توجه للأمة كلها – دون أمر الأفراد بأعيانهم - بالقيام بمصالح الخلق، وهو ما يُطلق عليه (فروض الكفايات) وهو كما عرّفه ابن عبد السلام :"أن المقصود بفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفه"(1), ولا شك أن عمارة الأرض من أهم تلك المطالب العامة لضرورتها في حياة الخلق، وقد عدّ الإمام الشاطبي فروض الكفايات العامة من الضرورات اللازمة التي لابد من القيام بها لصالح معاش الناس، وذلك بعد أن عدّد بعض هذه الفروض، قال: "وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة، إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام" (2) و انخرام النظام من أعظم مفاسد الأمم والمجتمعات.
وقال الإمام القرافي: "أحوال الأمة والنظر في مصالح الملة فإنه من أهم فروض الكفاية"(3) فالتعمير والبناء وإصلاح أحوال المجتمع هي فروض عامة لا تسقط إلاّ بالقيام الكافي بهذا المطلوب، وإلاّ أثمت الأمة بتركهم هذا الواجب العام، والناظر في أحوال المسلمين اليوم يرى حجم النقص والتقصير الكبير في واجب عمارة الأرض وضياع حضارتهم، خصوصاً في المجالات المدنية كالصناعات، والتقنيات الدقيقة، ومجال الاتصالات، وتقنية المعلومات، ومجال المكتشفات الطبية والعلمية المختلفة، ولا أظن أحداً يخالف في أهميتها للمسلمين، وقد نص أكثر من إمام على وجوب العمل لتغطية الاحتياج العام في هذه المجالات وغيرها، ومنهم الإمام الزركشي في قوله: "الحرف والصناعات وما به قوام المعاش، كالبيع والشراء والحراثة، و ما لا بد منه حتى الحجامة والكنس وعليه عمل الحديث "اختلاف أمتي رحمة للناس"، ومن لطف الله -عز وجل- جُبلت النفوس على القيام بها، ولو فرض امتناع الخلق منها أثموا ولم يحك الرافعي والنووي فيه خلافاً".(4)
رابعاً: يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143] ويقول تعالى :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]. فهذه الأوصاف التي جعلت الأمة شاهدة على الناس وصاحبة الخيرية على جميع الأمم هي أوصاف تعليلية، وذلك كونهم وسطاً معتدلاً بين الغلاة والمقصرين، و لقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعموم معناه وشمول مبناه (5). فأمة بهذه الأوصاف الجليلة لا يمكن أن يكون حالها الراهن المعلوم للجميع سويًّا أو مقبولاً؛ لأنها مرتبطة بالشهادة على الآخرين، ولا يتحمل الشهادة على أحد إلاّ من كان عالماً واعياً قادراً على أداء ما سيشهد عليه، ولذلك كان على الأمة جمعاء واجب القيام بأسباب الخيرية، وحسن الأداء، وجودة العطاء، وبث الفضيلة، والمعروف بين الناس، وإزالة أسباب الفساد والمنكرات، ولا أظن أن عمارة الأرض، وحسن إعداد مجتمعاتنا الإسلامية إلاّ من قبيل هذه المهمة العظيمة التي شرف بها أول هذه الأمة، ولن يشرف آخرها إلاّ بها.
خامساً: هناك شواهد نبوية ومن أفعال الصحابة ما يدل على عنايتهم بالبناء واهتمامهم بالعمل المدني، ولكن يقابل ذلك شواهد أخرى تدعو إلى الحذر من الركون الدنيا، والزهد فيها، ووصف العمران بأنه من علامات الأمم الغابرة التي كفرت بأنعم الله، واستحقت العذاب بسبب انشغالها بذلك؛كقوم صالح وقوم هود وفرعون ذي الأوتاد. ونصوص الذم للدنيا والانشغال بها تفوق الحصر، بل قد صنف كثير من أهل العلم مصنفات كبرى في الزهد وطلب الآخرة.(6)
وهنا يطرأ سؤال مهم: هل العمران مذموم في سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي المبينة للقرآن والكاشفة عن أحكامه ومقاصده؟ ويمكن الجواب عن هذا السؤال في النقاط التالية:
1- أن مفهوم العمران ليس مفهوماً مادياً بحتاً، وإنما هو اثر لقوة العلم والقيم وعمق الوعي بسنن التحضر والمدنية، وأكثر نصوص الوحي كانت لهذا البناء الإنساني أولاً، وإيجاد المستلزمات الضرورية لإصلاح معتقده، ونفي صور الانحرافات الشركية والكفرية من عقله وسلوكه، وتنقيته من رواسب الجاهلية وأخلاقياتها المادية، وهذا ملاحظ في عمق الربط بالآخرة وتقوية الصلة بالله تعالى في الفترة الأولى المكية من دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولذلك كان العمل على صياغة ولادةٍ جديدةٍ لمجتمعٍ نقي الباطن قادرٍ على تحمل تكاليف النهضة الجديدة وانشغالاتها وتبعاتها العمرانية على الأنفس والسلوك.
2- إن واقع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يكن واقعاً منكفئ الصلة بوجوه المدنية القليلة حولهم، بل كانوا أصحاب عمل وحرف وصنائع مختلفة، ولم تصرفهم أعباء الدعوة وبناء الدولة عن ذلك، والشواهد من حياة عثمان، وابن عمر، وابن عباس، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم- تؤكد حجم الاهتمام بالتجارة والعمل، ولكن لم يكن هناك نزوع نحو الإسراف والترف والمطاولة بالعمران، والمنافسة على تسخير المجتمع نحو مشاريع فردية كقصور وإيوانات ومقابر،كما هو حال فراعنة مصر أو أكاسرة الفرس أو قياصرة الروم. يقول الإمام ابن الجوزي مجيباً على شبهة الانحراف عن عمارة الدنيا تحت ذريعة التزهد: "تأملت أحوال الصوفية و الزهاد فرأيت أكثرها منحرفاً عن الشريعة بين جهلٍ بالشرع و ابتداعٍ بالرأي، و يستدلون بآيات لا يفهمون معناها، و بأحاديث لها أسباب و جمهورها لا يثبت، فمن ذلك أنهم سمعوا في القرآن العزيز: (وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) ثم سمعوا في الحديث: "للدنيا أهون على الله من شاة ميتة على أهلها"، فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها، و ذلك أنه ما لم يعرف حقيقة الشيء فلا يجوز أن يمدح و لا أن يذم، فإذا بحثنا عن الدنيا رأينا هذه الأرض البسيطة التي جُعلت قراراً للخلق تخرج منها أقواتهم، و يُدفن فيها أمواتهم، و مثل هذا لا يُذمّ لموضع المصلحة فيه، و رأينا ما عليها من ماء و زرع و حيوان كله لمصالح الآدمي، و فيه حفظ لسبب بقائه، و رأينا بقاء الآدمي سبباً لمعرفة ربه و طاعته إياه و خدمته، و ما كان سبباً لبقاء العارف العابد يُمدح و لا يُذمّ، فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل أو العاصي في الدنيا، فإنه إذا اقتنى المال المباح و أدى زكاته لم يُلم، فقد عُلم ما خلّف الزبير و ابن عوف و غيرهما، و بلغت صدقة علي -رضي الله عنه- أربعين ألفاً، و خلّف ابن مسعود تسعين ألفاً، و كان الليث ابن سعد يشتغل كل سنة عشرين ألفاً ,و كان سفيان يتجر بمال، و كان ابن مهدي يشتغل كل سنة ألفي دينار". (7)
3- إن هناك شواهد أخرى بالغة المعنى تدل على حقيقة العمران لا من جانبه المادي الظاهري، بل من خلال تأسيس روح العمل، وقيم المبادرة، وسلوك الوحدة الجماعية التي لا تنظر إلى فردانيتها بقدر ما تحمل هموم الجماعة ومصالحها، ومن ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت على أحدكم القيامة وفى يده فسيلة فليغرسها». (8). يقول الإمام المناوي في شرح معنى الحديث: "والحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به؛ فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلاّ صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل من الدنيا". (9)
ومن هنا نعلم أن العمارة الحقيقية إنما تبدأ من فكر الإنسان وتنمية وعيه بقيم الحقوق و الواجبات العمرانية، ولو فُقدت هذه الأحكام والمبادئ لأصبحت مهمة العمران من مفاسد الأرض وجلب الظلم وانتهاك حقوق الأفراد، وهذا ما قصده ابن خلدون في قوله: "إن الحضارة مفسدة للعمران"(10) من حيث وصولها إلى مرحلة الترف المؤدي إلى فساد الأخلاق، وتمزق المجتمع، وذهاب ثروته نحو طبقة متفردة تنتهي بها الدولة.(11)
ويظهر مما مضى من عرضٍ موجزٍ حول أصول (فقه العمران) أنه من الفقه الجديد الذي يحتاجه المجتمع في حركة نموه واطراد حاجاته؛ مثل دواعي الفقه المصرفي والطبي والسياسي وغيرها، وأعتقد أن الحاجة ماسة إلى فقهٍ عمراني يؤصل بواعث العمل نحو التحضر المدني، ويرسخ مفاهيمه الإسلامية، ويقرر تفرد الأمة بمنهج حضاري يقي العالم من إفرازات وسلبيات الحضارة المدنية الراهنة، وعولمتها التي اجتاحت العالم بأسره. وهذه المحاولة لتأصيل (فقه العمران) لعلها تفتح الباب لأهل العلم والبحث لمزيد تنظيرٍ وتأطيرٍ وجمعٍ للأحكام الفقهية المؤسسة لفعل حضاري رشيد يبني الدنيا وهو يعمر الآخرة.
ثالثاً: أن هناك طلباً تشريعياً توجه للأمة كلها – دون أمر الأفراد بأعيانهم - بالقيام بمصالح الخلق، وهو ما يُطلق عليه (فروض الكفايات) وهو كما عرّفه ابن عبد السلام :"أن المقصود بفرض الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان بتكليفه"(1), ولا شك أن عمارة الأرض من أهم تلك المطالب العامة لضرورتها في حياة الخلق، وقد عدّ الإمام الشاطبي فروض الكفايات العامة من الضرورات اللازمة التي لابد من القيام بها لصالح معاش الناس، وذلك بعد أن عدّد بعض هذه الفروض، قال: "وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة، إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام" (2) و انخرام النظام من أعظم مفاسد الأمم والمجتمعات.
وقال الإمام القرافي: "أحوال الأمة والنظر في مصالح الملة فإنه من أهم فروض الكفاية"(3) فالتعمير والبناء وإصلاح أحوال المجتمع هي فروض عامة لا تسقط إلاّ بالقيام الكافي بهذا المطلوب، وإلاّ أثمت الأمة بتركهم هذا الواجب العام، والناظر في أحوال المسلمين اليوم يرى حجم النقص والتقصير الكبير في واجب عمارة الأرض وضياع حضارتهم، خصوصاً في المجالات المدنية كالصناعات، والتقنيات الدقيقة، ومجال الاتصالات، وتقنية المعلومات، ومجال المكتشفات الطبية والعلمية المختلفة، ولا أظن أحداً يخالف في أهميتها للمسلمين، وقد نص أكثر من إمام على وجوب العمل لتغطية الاحتياج العام في هذه المجالات وغيرها، ومنهم الإمام الزركشي في قوله: "الحرف والصناعات وما به قوام المعاش، كالبيع والشراء والحراثة، و ما لا بد منه حتى الحجامة والكنس وعليه عمل الحديث "اختلاف أمتي رحمة للناس"، ومن لطف الله -عز وجل- جُبلت النفوس على القيام بها، ولو فرض امتناع الخلق منها أثموا ولم يحك الرافعي والنووي فيه خلافاً".(4)
رابعاً: يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143] ويقول تعالى :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]. فهذه الأوصاف التي جعلت الأمة شاهدة على الناس وصاحبة الخيرية على جميع الأمم هي أوصاف تعليلية، وذلك كونهم وسطاً معتدلاً بين الغلاة والمقصرين، و لقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعموم معناه وشمول مبناه (5). فأمة بهذه الأوصاف الجليلة لا يمكن أن يكون حالها الراهن المعلوم للجميع سويًّا أو مقبولاً؛ لأنها مرتبطة بالشهادة على الآخرين، ولا يتحمل الشهادة على أحد إلاّ من كان عالماً واعياً قادراً على أداء ما سيشهد عليه، ولذلك كان على الأمة جمعاء واجب القيام بأسباب الخيرية، وحسن الأداء، وجودة العطاء، وبث الفضيلة، والمعروف بين الناس، وإزالة أسباب الفساد والمنكرات، ولا أظن أن عمارة الأرض، وحسن إعداد مجتمعاتنا الإسلامية إلاّ من قبيل هذه المهمة العظيمة التي شرف بها أول هذه الأمة، ولن يشرف آخرها إلاّ بها.
خامساً: هناك شواهد نبوية ومن أفعال الصحابة ما يدل على عنايتهم بالبناء واهتمامهم بالعمل المدني، ولكن يقابل ذلك شواهد أخرى تدعو إلى الحذر من الركون الدنيا، والزهد فيها، ووصف العمران بأنه من علامات الأمم الغابرة التي كفرت بأنعم الله، واستحقت العذاب بسبب انشغالها بذلك؛كقوم صالح وقوم هود وفرعون ذي الأوتاد. ونصوص الذم للدنيا والانشغال بها تفوق الحصر، بل قد صنف كثير من أهل العلم مصنفات كبرى في الزهد وطلب الآخرة.(6)
وهنا يطرأ سؤال مهم: هل العمران مذموم في سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي المبينة للقرآن والكاشفة عن أحكامه ومقاصده؟ ويمكن الجواب عن هذا السؤال في النقاط التالية:
1- أن مفهوم العمران ليس مفهوماً مادياً بحتاً، وإنما هو اثر لقوة العلم والقيم وعمق الوعي بسنن التحضر والمدنية، وأكثر نصوص الوحي كانت لهذا البناء الإنساني أولاً، وإيجاد المستلزمات الضرورية لإصلاح معتقده، ونفي صور الانحرافات الشركية والكفرية من عقله وسلوكه، وتنقيته من رواسب الجاهلية وأخلاقياتها المادية، وهذا ملاحظ في عمق الربط بالآخرة وتقوية الصلة بالله تعالى في الفترة الأولى المكية من دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولذلك كان العمل على صياغة ولادةٍ جديدةٍ لمجتمعٍ نقي الباطن قادرٍ على تحمل تكاليف النهضة الجديدة وانشغالاتها وتبعاتها العمرانية على الأنفس والسلوك.
2- إن واقع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يكن واقعاً منكفئ الصلة بوجوه المدنية القليلة حولهم، بل كانوا أصحاب عمل وحرف وصنائع مختلفة، ولم تصرفهم أعباء الدعوة وبناء الدولة عن ذلك، والشواهد من حياة عثمان، وابن عمر، وابن عباس، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم- تؤكد حجم الاهتمام بالتجارة والعمل، ولكن لم يكن هناك نزوع نحو الإسراف والترف والمطاولة بالعمران، والمنافسة على تسخير المجتمع نحو مشاريع فردية كقصور وإيوانات ومقابر،كما هو حال فراعنة مصر أو أكاسرة الفرس أو قياصرة الروم. يقول الإمام ابن الجوزي مجيباً على شبهة الانحراف عن عمارة الدنيا تحت ذريعة التزهد: "تأملت أحوال الصوفية و الزهاد فرأيت أكثرها منحرفاً عن الشريعة بين جهلٍ بالشرع و ابتداعٍ بالرأي، و يستدلون بآيات لا يفهمون معناها، و بأحاديث لها أسباب و جمهورها لا يثبت، فمن ذلك أنهم سمعوا في القرآن العزيز: (وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) ثم سمعوا في الحديث: "للدنيا أهون على الله من شاة ميتة على أهلها"، فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها، و ذلك أنه ما لم يعرف حقيقة الشيء فلا يجوز أن يمدح و لا أن يذم، فإذا بحثنا عن الدنيا رأينا هذه الأرض البسيطة التي جُعلت قراراً للخلق تخرج منها أقواتهم، و يُدفن فيها أمواتهم، و مثل هذا لا يُذمّ لموضع المصلحة فيه، و رأينا ما عليها من ماء و زرع و حيوان كله لمصالح الآدمي، و فيه حفظ لسبب بقائه، و رأينا بقاء الآدمي سبباً لمعرفة ربه و طاعته إياه و خدمته، و ما كان سبباً لبقاء العارف العابد يُمدح و لا يُذمّ، فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل أو العاصي في الدنيا، فإنه إذا اقتنى المال المباح و أدى زكاته لم يُلم، فقد عُلم ما خلّف الزبير و ابن عوف و غيرهما، و بلغت صدقة علي -رضي الله عنه- أربعين ألفاً، و خلّف ابن مسعود تسعين ألفاً، و كان الليث ابن سعد يشتغل كل سنة عشرين ألفاً ,و كان سفيان يتجر بمال، و كان ابن مهدي يشتغل كل سنة ألفي دينار". (7)
3- إن هناك شواهد أخرى بالغة المعنى تدل على حقيقة العمران لا من جانبه المادي الظاهري، بل من خلال تأسيس روح العمل، وقيم المبادرة، وسلوك الوحدة الجماعية التي لا تنظر إلى فردانيتها بقدر ما تحمل هموم الجماعة ومصالحها، ومن ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت على أحدكم القيامة وفى يده فسيلة فليغرسها». (8). يقول الإمام المناوي في شرح معنى الحديث: "والحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به؛ فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلاّ صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل من الدنيا". (9)
ومن هنا نعلم أن العمارة الحقيقية إنما تبدأ من فكر الإنسان وتنمية وعيه بقيم الحقوق و الواجبات العمرانية، ولو فُقدت هذه الأحكام والمبادئ لأصبحت مهمة العمران من مفاسد الأرض وجلب الظلم وانتهاك حقوق الأفراد، وهذا ما قصده ابن خلدون في قوله: "إن الحضارة مفسدة للعمران"(10) من حيث وصولها إلى مرحلة الترف المؤدي إلى فساد الأخلاق، وتمزق المجتمع، وذهاب ثروته نحو طبقة متفردة تنتهي بها الدولة.(11)
ويظهر مما مضى من عرضٍ موجزٍ حول أصول (فقه العمران) أنه من الفقه الجديد الذي يحتاجه المجتمع في حركة نموه واطراد حاجاته؛ مثل دواعي الفقه المصرفي والطبي والسياسي وغيرها، وأعتقد أن الحاجة ماسة إلى فقهٍ عمراني يؤصل بواعث العمل نحو التحضر المدني، ويرسخ مفاهيمه الإسلامية، ويقرر تفرد الأمة بمنهج حضاري يقي العالم من إفرازات وسلبيات الحضارة المدنية الراهنة، وعولمتها التي اجتاحت العالم بأسره. وهذه المحاولة لتأصيل (فقه العمران) لعلها تفتح الباب لأهل العلم والبحث لمزيد تنظيرٍ وتأطيرٍ وجمعٍ للأحكام الفقهية المؤسسة لفعل حضاري رشيد يبني الدنيا وهو يعمر الآخرة.
(1) العز بن عبد السلام. قواعد الأحكام 1/69 (2) الشاطبي. الموافقات 2/180 (3) القرافي. الفروق 4/92 (4) الزركشي. المنثور في القواعد 3/35 , انظر: السيوطي. الأشباه والنظائر 2/251. (5) انظر: الماوردي: النكت والعيون 1/252 . البغوي: معالم التنزيل 2/89 . ابن عاشور: التحرير والتنوير 3/186. (6) انظر على سبيل المثال: الزهد لأحمد ابن حنبل. والزهد لهناد بن السري. والزهد لوكيع ابن الجراح. والزهد والرقائق لابن المبارك. والزهد لابن أبي عاصم وغيرهم كثير. (7) ابن الجوزي. صيد الخاطر 1/27 (8) روا أحمد في المسند 13240 (9) المناوي , فيض القدير 3/30 (10) ابن خلدون , المقدمة 3/877 . (11) الجابري , فكر ابن خلدون . العصبية والملك ص 233 وما بعدها .
تعليقات
إرسال تعليق