بعد خراب البصرة.. تُريد زينب أن تُعمّرها


بعد خراب البصرة.. تُريد زينب أن تُعمّرها
بدعوةٍ كريمة من المجتهدة زينب بابان وجّهتها لي للكتابة عن الشناشيل البصرية وضرورة المحافظة عليها.. ولهذا أحببتُ أن أدوّن بعض السطور المتواضعة حول الموضوع المطروح.
 
 شناشيل مدينة البصرة - العراق
العنوان الذي اخترتهُ لهذه المقالة يُشير إلى مقولة متداولة "بعد خراب البصرة"، ويُراد بها أن الوضع أصبح صعباً بعد تغيير كبير أصاب الشيء المراد إصلاحه.. وتُشير أكثر مصادر المؤرخين إلى أنّ ذلك يعود إلى الدمار الهائل الذي حلّ بمدينة البصرة إثر ثورة الزنج التي اندلعت في عام 255 هـ بقيادة الثائر والمتمرد علي بن محمد وأنتهت في عام 270 هـ ، والتي كلّفت الخلافة العباسية الكثير من الجهد والأموال والأرواح من أجل إخمادها، وكانت واحداً من أسباب ضعف وضعضعة الحكم العباسي، والتي ساهمت بعد ذلك بالقضاء عليه.

والبصرة التي تقلّدت أسماءً مختلفة لتميّزها وأهميتها في موقعها الجغرافي التي هي فيه، ومن أسمائها: أم العراق، خزانة العرب، عين الدنيا، ثغر العراق الباسم، الفيحاء، ذات الوشامين، البصرة الزاهرة، والبصرة العظمى، وهذا الأخير يُراد به تعريفها كي لا تختلط مع مدينة البصرة الصغيرة، والتي بُنيت في المغرب في عهد الخليفة هارون الرشيد.. وليس من قبيل الصُدف أن تتشابه عناصر العمارة العربية الإسلامية في الأخيرة مع ما هو موجود من عناصر معمارية في البصرة الكبرى.
شناشيل من مدينة البصرة المغربية
لقد تطوّرت عبر التاريخ فنون العمارة وتنوعت تفاصيلها وطرزها بما يتلائم والتأثيرات البيئية في حياة أهل مُشيّدي تلك الفنون العمارية.. وارتبطت بالخصائص المناخية والموقع الجغرافي والتكوينات الجيولوجية والمعتقدات الدينية في كل بلدٍ من البلدان.. ولعبت مواد البناء المتوفرة أو المستوردة دوراً واضحاً في الأشكال المعمارية التي سادت في تلك البيئات.. ولم يتمكن البناء أن يكون جميلاً متكاملاً إلا إذا كان بين طرازه والمادة التي يُبنى بها تواءم واتساق.
ولقد تفاعل العرب المسلمون مع شتى الأساليب الفنية التي سبقتهم، وحاولوا طبعها بطابعهم الخاص وفنهم الخاص، وقد ظلّت الفنون المكتسبة والمبتكرة مستمرة حتى نهاية العصر العثماني.
ولقد ظهر توقٌ إلى الاتجاه الزخرفي في تحسين وتهذيب الخطوط الكوفية القديمة وفي أشكال المشربيات، وتجميع الخشب وأعمال الخراطة والكلمة المتداولة لدينا في العراق، والتي نُعبّر فيها عن المشربية هي "الشنشول" وجمعها شناشل.. وقد تغنّى بها "بدر شاكر السياب" في قصيدته "شناشيل بنت الجلبي"، وهي نافذة ناتئة من الخشب منفذة بقضبان خشبية رقيقة متشابكة ومتقاطعة أو متصالبة تُصمّم بأشكال هندسية مربعة أو مثلثة أو معينة وبعناصر زخرفية ونقوش وتقع على واجهة الطابق الأول المطل على الزقاق. وقد يكون اسمها العراقي متأتي من الإغريقية، حيث كانت تُلفظ سناسيل، ونُقلت إلى التركية ثم إلى اللهجة العراقية. واسمها المصري "مشربية" فهو متأتي من أن الناس آنذاك كانوا يُعلّقون جرّة الماء من الطين المفخور بها من أجل تبريدها بالتيار الهوائي المار بها، وهناك من يقول عنها أنها مُحوّرة عن كلمة "مشرفية"، وغير ذلك من التفسيرات.
ويعتقد بعض المؤرخين بأن (الأسطوات) والعمال المهرة.. الذين نفّذوا هذه الشناشيل هم من الهنود الذين وفدوا إلى البصرة في فترات رخائها الاقتصادي والاجتماعي.
ويذكر د.علي تويني في كتابه معجم عمارة الشعوب الإسلامية، بأن وظيفة الشناشيل تتحدد بالتالي:
1. نثر الضوء الطبيعي داخل الغرفة، بحيث لا يحدث السطوع في الداخل.
2. لحجب ما بداخل الدار.
3. لتبريد جرات الماء صيفاً.
4. استعمالها كتشبيكات في الواجهات الصماء لتسمح بمرور تيارات الهواء التي تحتاجها المناطق الحارة الرطبة أو الجافة.
ولكني أمتلك رأياً قاطعاً بذلك وهو أن هذه الشناشيل كانت وظيفتها الأساسية هو منع الرؤية لا غير.. وإلا لماذا لم يكن الرجل يجلس خلفها.. ولماذا لم تكن باقي أجزاء البيت والفراغات المعيشية مُعالجة بنفس الطريقة إن كانت تهدف إلى الإيفاء بما جاء في (1,3,4) من الوظائف.
شيءٌ آخر مهم في هذا الصدد يجب ذكره، هو أن مثل هذه البيوتات التي احتوت على شناشيل كان يملكها الأغنياء من التجار، وكانت هناك آلافاً من البيوت الشعبية التي لم تحتوي مثل هذه المعالجات الجمالية. وهذه النقطة تجرني للمقترح الذي مفاده أن الحفاظ فيزيائياً على هذا التراث لا يُمكن أن ينجح من خلال جهود ومساعي الجهات الرسمية فقط.. وإنما علينا تشجيع الأغنياء على تملّك هذه المباني.. مثلما جرى لمباني تراثية في المغرب كانت مُهملة وحتى آيلة للسقوط.. وقد اشتراها بعض الوافدين ورمّموها وفق تعليمات مُثبتة مسبقاً.. وتم الحفاظ عليها..
وهنا لا أدعوا إلى أن يتملّكها أجانب بل حتى عراقيون، بدعم ومساندة من جهات رسمية، لأن واحداً من أهم أسباب تهدّم المباني القديمة هو تفتّت الملكية، بحيث لا يوجد مسؤول عن المبنى، إضافة لفقر الجميع، فالإهمال ينبع من عدم القدرة وعدم الملكية. وهنا يُمكن أن أحافظ على البيت عن طريق تشجيع الأغنياء على العودة بغض النظر عن جنسياتهم، وعن الوقت الذي سيقضونه في المدينة، وهذا يُمكنه أن يُحافظ على العمارة، ولكنه لن يُحافظ على النسيج العمراني والاجتماعي.
البعد الثاني هو تشجيع الأغنياء الرومانتيكيين المحليين الراغبين في العودة والقادرين عليها على الرجوع وليس فقط لإحياء الحفلات عشر مرات في السنة بل للإقامة الدائمة، لا أعرف كيف يمكن أن يُفَعّل ذلك ولكن في رأيي أن الكلام عن البعد العمراني والمعماري دون الكلام عن قاعدة اقتصادية متينة لن يؤدي إلى نتيجة، فيجب ألا يكون هناك مغزي اقتصادي من خلال التفكير بالسياحة فقط لأنها طارئة وليست مُقيمة ومستمرة. كما أن هناك مناطق وحارات كثيرة ليس من مصلحة السياحة أن تُنفق عليها نقوداً.
 
 

 

تعليقات