من كتاب صناعة الحياة ....محمد احمد الراشد
المهندس المعمارى من أهم صناع الحياة، آفإن بعض عجيبة النحل يكمن فى سداسياتها، ونصف جمال الحياة بين جناحى فراشة .
إن حس الجمال رزق من الله وزعه على المخلوقات من بعض ما عنده من جمال وحب للجمال، آما وزع بعض الرحمة التى عنده .
فجمال الزهور الجميلة من مقدمات تلقيحها، وجمال الديك والطاووس إنما آان لأن عملية البيض والحضن صعبة تأباها الأنثى لولا جاذبية الجمال.
وقد سخر الله تعالى بإذنه بعض الناس أن يكونوا صناعاً للجمال، والمعمارى منهم، فهو يبنى النفوس والأذواق وجيد الطباع بمبادئ التناظر والتعادل
والتناسق والتدرج والتناسب.
المدينة الجميلةجزء من الحياة، ولذلك حين يقول المعماريون المؤمنون بعد أن يساهموا فى بنائها أن أيها الناس آمنوا: سيؤمن منهم عدد ، وألف
ضعف ذلك العدد تكون نفسه قد تعادلت وأنكرت الشذوذ واقتربت من الإيمان، بإيحاءات الجمال التى صاغها المهندسون.
يؤذنون من على عروشهم المعمارية فى آن واحد مع المؤذنين من على منابر المساجد.
إن جانباًَ من محنة الناس يكمن فى فساد الأذواق وانحراف الطباع، ولا يقبل الكفر إلا صاحب نفس معكوسة منكوسة، وسوى النفس أقرب إلى
الإيمان، وبحق رصد عباس محمود العقاد انتساب أصحاب الانحرافات إلى الشيوعية حتى وصفها بأنها مذهب ذوى العاهات.
إن المعمارى قرين الواعظ فى تسوية النفوس
هى فلسفة فى الحياة ......... لكن اسمها جدار ورواق .
وفلسفة فى القيم.......... لكن يلقبونها باباً وباحة .
وحشد من المعانى .... مترجم بأقواس وأعمدة وأخشاب نافرة .
وحاجة الدعوة إلى رهط من المعمارين يشارآون فى تعليم الدعاة والمؤمنين موازين الجمال هى من جنس حاجتها إلى علماء يعلمونهم موازين
المزنى وشوافع الشافعى وملاك مصالح مالك، ولو فوض الأمر إلى لدفعت ربع أذآياء شباب الدعوة إلى دراسة فنون العمارة، ولأدخلت ذلك فى
الخطة وجعلته حتماً واجباً، فإن تعادل العقلانية والعاطفية فى الأداء الدعوى يلزمه الاقتران بالمعايير الجمالية، ليتم بهذه الثلاث استواء الصناعة
الحيوية، ومن الخطأ أن نفهم أن الدور المعمارى يلزمه التعقد والبذبخ والتعاظم والإسراف والتطاول والتبذير والتكلف ليؤدى وظيفته، وإنما يؤديه
من خلال البساطة والتواضع ومجانسة البيئة والجرى مع الفطرة واستعمال المواد الخام غير المصنعة، وبدأ الجيل الجديد من المعماريين يعود إلى
هذه المعانى الأصيلة، ولعل أثر جماعة المعمارين المؤمنين فى التربية الدعوية هو الجزء الناقص فيها المكمل لآثار الحسن البصرى والجنيد .
إن مدينتنا الفاضلة آما تبنيها أبيات الشعراء وتضع قوانينها طوائف الفقهاء، فإنها تتلألأ بلمسات فنون العمارة، لتكون وحدة واحدة متجانسة بمادتها
ومعانيها.
وقد آانت إنجازات السلف أيام الازدهار الحضارى آذلك .
فاس المغربية وحدة واحدة آلها، وآلها مصانة الآن محفوظة من الهدم والتغيير بإشراف الأمم المتحدة، وهى آتلة معمارية آلها، ومعلم من معالم
الإنسانية حين تنضج ويسمو سذوقها.
وقصر الحمراء ومقترباته وأرآان غرناطة آتلة مندمجة .
ومدارس بغداد وخاناتها وباقايا سورها ومساجدها وأزقتها ومستنصريتها علاقات جمالية مؤاداة على نسق، بعضها من بعض.
وصنعاء لوحة فنية واحدة، وآذا دمشق والقاهرة، والقيروان وتلمسان، وبخارى وسمرقند، وأصفهان واستانبول.
ولهذا فإن سواء أنفس أجيال المسلمين بالأمس هو من تأثير هذه المعطيات الحضارية الفنية آما هو تأثير الإيمان.
وجزء من محنة عواصم النفط اليوم يكمن فى الفوضى المعمارية التى عكرت النفوس حين لم يستخدم المال فى منهجية معمارية واحدة متناسقة
متناسبة، وإنما استوردت مذاهب المهندسين استيراداً عشوائياً، فصار التناقض المزرى، وتوترت القلوب حتى افتقدنا السكينة .
ولهذا فإن أدوار آبار المهندسين الذين يصرون على مواصلة الارتباط بالتراث وتوحيد المستقى، مثل حسن فتحى بمصر ، وقد تجاوز الثمانين،
ومحمد مكية ورفعت الجاردجى وأمثالها بالعراق: هى أدوار بطولية، وهى أدوار إسلامية إيمانية وإن لم يفهم بعضهم آل قصة الحياة ولبثت يتوهم
العلمانية، لغلبة أثر المنشأة وبقية التقليد لموجة المراهقة الفكرية التى عمت العالم الإسلامى بين الحربين العالميتين على وجه الخصوص .
واليوم يسير المعمارى أحمد الرستمانى وفريقه بمكتب التراث فى دبى بخطى ثابتة ويمضى قدماً فى استلهام التراث حقاً .
إن الناس إذا عرفت مقاييس الجمال فليس أجمل من الإيمان والأخلاق والمعروف، ولذلك فإن على خطة الدعوة فى آل بلد أن تدفع مائة لدراسة
العمارة، لينبغ منهم عشرة ويصلوا إلى درجة الإبداع والاجتهاد وجودة العطاء فيكون هؤلاء العشرة من صناع الحياة، بمشارآتهم فى تحسين المحيط
وترويض الأذواق، وباللبنات الحضارية التى يرسونها فى أساس النهضة الإسلامية المستأنفة، وبألوف أهل الولاء الذين يضيفونهم إلى رصيد
مصرف الترجيح.
بل المتأمل يذهب إلى أبعد من هذا، ويجد فى الموازين المعمارية مادة لتعميق الوعى التنظيمى والتربوى وإتقان فقه الدعوة .
ففكرة المرآزية التى يضجر منها بعضهم إنما هى حقيقة حيوية ومعمارية تعظ الداعية بأن الأمر نسبى، وأنه ليس من الصواب إطلاق تفضيل
اللامرآزية الإدارية والاستطراد فيها، بل فى المرآزية قوام الأداء، وهى فرع من حقيقة الولاء، ومثلها المعمارى ما يكون من شخوص قبة مسجد
مثلاً، فكأنها جمعت ما فى البيئة المحيطة وربطته بأنساب القربى معها، ولخصت ورآزت ما هنالك حولها، فلا تكون فى الساحة والعرصة الواسعة
أشكال معمارية متسيبة متروآة عائمة، بل هى مربوطة بعلاقة محورها القبة، ثم يكون محراب المسجد عاآساً لمعانى مرآزية داخلية أخرى مكملة،
من ارتباط الجوانب والأعمدة والنوافذ به آمرآز، فتتولد عندنا إيحاءات مضاعفة من وجود مرآزية داخل مرآزية تؤلف جانباً من الأنماط الحيوية
الصحيحة، بدليل حلول التجانس فيها وقبول النفس لها، وهو معنى يعظ الضجر من مرآزية الأعمال ويناديه أن لا سلب فى ذلك، وإنما ثم نور على
نور.
وفى العمارة أفكار أساسية آثيرة، مثل المحورية، وهى عكس المرآزية اللامة الجامعة الساعية إلى تكثيف المعنى، أى هى النشر والتوزيع المنتظم
الذى يبقى الشىء فى ابتعاده واستقلاله مرتبطاً بعلاقة لا تدعه يتفلت أو ينفرد أو يطيش ولهذا المبدأ تطبيق تربوى أيضاً، بل وجود المحورية
المعمارية يطبع فى لا شعور الناظر معناها من خلال النظر المسترسل البرئ. آذلك فكرة التنوير المتكافئ، وفكرة انتقال الوظائف الفرعية بين أجزاء
المبنى وتبادلها بسلاسة ويسر وتكاملها فى أداء الوظيفة الكبيرة هى فكرة معمارية عظيمة الأثر فى الفكر التنظيمى، والاعتياد على استعمال الفرد
لمبنى على هذه الهيئة من سهولة النفاذ والحرآة وجزالة الاستفادة من آل زاوية ودهليز وباحة هو فى نفس الوقت تربية له على تجويد تخطيطاته
التنظيمية الادارية فى اتجاه التكامل الوظيفى وتوفير الجهد المبذول، ومنجمع الوزارات بالكويت هو نموذج جيد لذلك، وهو مدرسة تربى أهل الكويت
على هذه المعانى وهم لا يشعرون.
ويسعنا أن نطور وعينا الحيوى بأن نعيش سويعات مع رواية المعماريين لتجاربهم، وقد عشت ساعة مع المعمارى الايطالى الصاعد (بيانو) عبر
حلقة تلفزيونية، وآان يتكلم من شقته التراثية فى أزقة جنوا القديمة وآأنه يملك آل إيطاليا. وعشت أيضاً مع المعمارى العراقى رفعت الجادرجى فى
آتابه ( بين شارع طه وهمرسمث) الذى أودع فيه جانباً من فلسفته المعمارية وروى معها خبر غيره. وشارع طه ببغداد حيث يقع بيت أبيه الذى هو
أحد قادة السياسة العلمانية فى العراق، وهمرسمث هى الكلية المعمارية التى درس فيها بلندن.
فهو يدعو إلى ضرورة تمثل العمارة بمنشأة مادية يستخدمها الجمهور من أجل أن ينتشر الوعى المعمارى، وهذا آلام صائب، يشبهه تمثل الإيمان
والفكر بأشخاص قدوات يخالطون الناس، لتنتشر عدوى الخير.
وهو يعتبر المرونة فى الحرآة فى المنشأة :التجسيد الكامل للفكر المعمارى، بل هذا من أول مفاهيم العمارة بعد مفهومها الجمالى، وهو مفهوم
أساسى فى التخطيط الإسلامى آذلك.
ويرى أن آل عمل معمارى يؤثر فيه عاملان: الشكل القديم المتوارث المتاح والإبداع الفردى التطويرى. وهذا ميزان فى العمل الإسلامى أيضاً،
فالتربية على فهم الأصالة والتدريب على التأصيل والسلفية من أهم وظائف المنهج التربوى، ولكننا نجعل الشورى محرآاً للإبداع والاجتهاد ونبذ
التقليد الجزاف، فيبقى أحدنا مشدوداً أبداً إلى الثوابت، ويتجول فى الوقت نفسه فى ساحات المتغيرات.
وعنده أن تقويم صنعاء غير تقويم روما، إذ لابد من ملاحظة أثر التطور الاجتماعى والتقنى ونوع المفهوم العاطفى والمناخ. وهذا ميزان عام فى
غاية الصواب، ولكل قطر تأثيراته الذاتية فى العمل الإسلامى الذى فيه، ولا يجوز النقل الحرفى لتجارب الآخرين، آما لا يجوز تعميم النقد بناء على
الظواهر، بل لابد من ملاحظة الخلفيات والفروق.
وعنده أن نوع المواد والمكننة المتاحة تؤثر فى معنى العمارة، ولذلك آان من آثار تطوير الأعمدة باستعمال الحديد والخرسانة: تقليل مهمة الجدران
فى إسناد البناء عموماً وحمل ثقل السقف والطوابق العليا بخاصة، فأتيح للمعمارى وضع النوافذ العريضة الطويلة وآثرة استعمال الزجاج، فأتيحت
من ثم الإنارة الوافرة والإطلالة على الجمال المحيط بالمبنى من خضرة ومياه من داخل المبنى. وهذه موازين تصلح للتخطيط الإسلامى، إذ ان وجود
رجال الصفوة والقاعدة الصلبة يتيح انفتاح الجماعة الدعوية على المجتمع وتكثيف الخلطة به ، لرجحان التأثير وقلة الخوف من التأثر. وآذلك
الانفتاح على الثقافة الشمولية والفنون والمعرفة العالمية، لوفرة الاطمئنان إلى ثبات عناصر الدعاة وقابليتهم – إذ هم أقوياء – على التمييز وانتقاء
المعانى الصائبة وغربلة المسموع والمقروء، ونبذ واطراح اللغو والأخطاء والأوهام، بينما تميل الدعوة فى حالة ضعف تربية رجاهلا إلى عصمتهم
عن تأثيرات المجتمع والثقافات بالعزلة والانكفاء على النفس.
وعنده أن العمارة طراز فردى وطراز عام فى آن واحد، وأحدهما يؤثر فى الآخر، فالمعمارى ينوب عن المجتمع العام فى تحديد شكل عمارته، فيترك
أثره الفردى، ثم هو فى إبداعه الخاص لا يوغل فى الفردية، لئلا يشذ ويغرب، فكأن المجتمع صار رقيباً عليه. وهذا هو دور مجالس الشورى
والندوات الفكرية وحلقات لحوار فى الجماعة الإسلامية، بحيث تستفز الجماعة الداعية ليفكر ويجرب مغامرات العقل وطلب المعانى من مواطن
المعالى، ولكنها فى الوقت نفسه تجعل له مثابة دائمة تحت مظلة الرقابة الجماعية يفئ إليها ويرجع آلما غزا وجاب الصحراء.
وبكل هذا وضحت آيفية استيلاء المعماريين على صناعة الحياة، حتى أنهم ليكادون يحتكرونها فى ظن المسترسل مع حماستنا لهم، لولا أن يرده ما
يعلم من أن أهل الفضل والعلوم والتخصصات قد توزعتهم دائرة مفرغة مغلقة لا تعرف لها طرفاً .
ولقد رأيت حسن فتحى أيضاً فى حلقة تلفزيونية يتحدث عن مسيرته الطويلة، والقرية الإسلامية فى أمريكا من إنجازاته، فازددت وعياً وقناعة. وآان
لى تأمل طويل فى لمسات محمد مكية بجامع الخلفاء ببغداد، ونظر إلى أعماله الأخرى، فتعلمت الكثير .
فكن المعمارى المسلم، أو المجهز له، أو الناظر لماتقترف يده الملائكية، لتفتح عرضات الحياة وتدق أبواب الحضارة ولا تكن الرابع فتتربع من بعد
ما أردت لك المنطلق .__
Dr. EMAD HANI ISMAEEL
Ph.D. in Technologies for the Exploitation
of the Built Heritage .
Senior Lecturer in the Dept. of Architecture
College of Engineering , University of Mosul
Mosul - Iraq .
E-mail: emadhanee@yahoo.com
Web Site: http://sites.google.com/site/emadhanee/
Tel : +964 (0)770 164 93 74
تعليقات
إرسال تعليق